الخميس 2018/10/11

آخر تحديث: 20:49 (بيروت)

موسكو لم تصدمها قضية خاشقجي

الخميس 2018/10/11
موسكو لم تصدمها قضية خاشقجي
increase حجم الخط decrease

من المؤكد ، أن موسكو لم تُصدم ، كما صُدم كل "العالم الآخر" ، بنبأ اختفاء جمال الخاشقجي في قنصلية بلده في اسطنبول، ولم "تتجمد الدماء في عروقها" ، وهي تتابع أنباء احتمالات القتل الوحشي للرجل على يد بني جلدته . ليس في الأمر ما يدهش موسكو، التي تمرست في تصفية معارضيها ومنتقديها ، حتى لو كانوا عند جدران الكرملين ، كما اغتيل قائد المعارضة الروسية بوريس نمتسوف شتاء العام 2015 ، أو على مداخل بيوتهم ، كما اغتيلت الصحافية المعارضة آنا بوليتكوفسكايا في العام 2006 .

قد تمر نشرات أخبار عدة ، دون أن يأتي التلفزيون الرسمي الروسي على ذكر قضية الخاشقجي . ويشكل التلفزيون أداة الكرملين الرئيسية في الهيمنة على عقول غالبية الروس والتحكم بتوجهاتهم ، وهو منهمك هذه الأيام ، ومعه كل روسيا ، بمتابعة نقاش حول اعتداء على المارة وسط موسكو ،ارتكبه لاعبا كرة قدم روسيان شهيران وأسفر عن جرحى نقلوا إلى المستشفيات . واللافت في النقاش الدائر حول الإنهيار الأخلاقي العام ، الذي يقف وراء مثل هذه الإعتداءات على المارة في الشوارع ، هو العقوبة ، التي اقترحها لهذين الرياضيين الفتوتين زعيم أكبر كتلة نيابية في الدوما الروسية ، بعد حزب الكرملين ، فلاديمير جيرينوفسكي ، الذي اقترح إرسالهما للقتال في سوريا بدلاً من زجهما في السجن.

لقد توافقت قضية الخاشقجي مع الذكرى السنوية الثانية عشرة لمقتل الصحافية آنا بوليتكوفسكايا في 7 تشرين الأول/أوكتوبر 2006، التي كرست نفسها لفضح جرائم الغزو الروسي للشيشان . ويحرص الناشطون الديموقراطيون الروس على إحياء هذه الذكرى سنوياً ، وكانت للكاتبة سفتلانا ألكسييفنا ، صاحبة جائزة نوبل للآداب العام 2015 ، كلمة بالمناسبة هذه السنة . توجهت ألكسييفنا في كلمتها لصاحبة الذكرى  بالقول، ما لقد مر على غيابك أكثر من عشر سنوات ، كان بوسعنا خلال هذا الوقت أن نعيش في بلد مختلف ، أن ننتقل من إمبراطورية الغولاغ إلى بلد أوروبي طبيعي ، كما فعل الكثيرون من جيراننا" . وتقول الكاتبة ، أن الروس نادوا في التسعينات "الدموية ، المقدسة ، الجامحة" بالحرية ، وظنوا أنهم قاب قوسين من نيلها ، لكنهم كانوا يقدسون فكرة الحرية ، وليس الحرية ، لأنهم ما عرفوا سوى معسكرات الإعتقال ، ومن قضى حياته في هذه المعسكرات لا يمكن أن يكون حراً بمجرد خروجه من بوابة المعتقل ، "لأن المعتقل هو كل ما يعرفه ويجيده" .

إمبراطورية الغولاغ هذه ، التي عادت تماثيل ستالين لتغزو ساحاتها وشوارعها ، وعادت رفوف الكتب فيها لتضيق بالكتب عن ستالين ، وعن نسائه وتبغه وهوياته ، حسب ألكسييفنا ، لا يمكن لها أن تتضامن مع قضية الحرية ، ولا يسعها أن تكون مع قضية جمال الخاشقجي . بل هي منهمكة الآن في العمل على تعديل دستورها ، على قول رئيس المحكمة الدستورية منذ أيام ، لكي يتلاءم مع تكريس "أبدية بوتين" زعيماً للإمة ، ويتكيف مع متطلبات قمع التحركات الشعبية المتواصلة ، منذ إقرار قانون رفع سن التقاعد في أيار/ مايو الماضي ، ورفع الرسم على القيمة المضافة .

ولا تنتهي مشاغل إمبراطورية الغولاغ عند هذا فحسب ، بل هي منهمكة هذه الأيام أيضاً ، بانقسام الألفية الثالثة في الكنيسة الأرثوذوكسية ، وانفصال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية ، الذي أقرته بطريركية إسطنبول الأرثوذوكسية منذ أسابيع . ووجه هذا القرار ضربة قاصمة لمقولة "العالم الروسي" ، التي يتبناها الكرملين في حروبه التوسعية على حساب البلدان المجاورة ، وأطاح بحلم موسكو التاريخي أن تكون "روما الثالثة" ، بعد "روما الثانية" في إسطنبول القسطنطينية ، إذ اكتشفت الكنيسة الروسية، وخلافاً للبطريركيات الأرثوذوكسية الأخرى ، أن ليس لها منطقة محددة  مثبتة في وثائق العالم الأرثوذوكسي .

وكأن لا تكفي الكرملين هذه الهموم "المصيرية"، بل أُضيف إليها هم فضائح جهاز مخابراته العسكرية في أكثر من بلد غربي ، مما استدعى رداً حازماً موحداً من قبل هذه البلدان ، سخرت فيه من مخططات الكرملين ومخابراته ، بدلاً من أن "ترتجف خوفاً" ، عبرت عنه "التايمز" البريطانية بقولها "بوتين عصي على الخجل ، لكن ليس على الهزيمة" .

قد تكون مشاغل الكرملين هذه ، مع تزايد تورطه في حرب عربية ثانية في ليبيا ،  هي التي تفسر عدم حماسة تلفزيونه وأجهزة إعلامه لأنباء قضية الخاشقجي ، يضاف إليها الحرج ، الذي تسببه هذه القضية مع كل من تركيا والسعودية ، اللتين يسعى جاهداً للحفاظ على حسن العلاقات معهما . وهو ليس ضد عدم الإتيان على ذكرها ، لو لم تفرض نفسها حدثاً يشغل العالم بأسره ، وتقض مضاجعه قضية حرية الكلمة ، التي تجسدها الآن قضية جمال الخاشقجي . فقد كتبت صحيفة الكرملين "vz" في العاشر من الجاري مقالة تعلق فيها على مقتل الصحافية البلغارية فيكتوريا مارينوفا ، لم تأت فيها على ذكر مأساة الخاشقجي ، بحجة أنها تتحدث عن مقتل الصحافيين في الإتحاد الأوروبي فقط .

لا يتوهمن أحد أن الصحيفة كانت تستهدف التضامن مع حرية الكلمة ، بل ركزت في مقالتها على انتقاد الإتحاد الأوروبي ، واعتماده مكيالين في مقاربة مسألة حرية الصحافة . فقد وضعت للمقالة عنوان "ردة فعل الإتحاد الأوروبي على مقتل الصحافيين تفضح رياءه" ، وقالت بأن الصحافيين الأوروبيين ، الذين  يلاحقون قضايا الفساد، يعيشون اليوم في جو من القلق والخوف . وتقول بأن عدد الصحافيين الإيطاليين الذين يعيشون هذا الخوف ، وتتولى الشرطة حماية أمنهم ، قد بلغ رقماً قياسياً ، إذ يقارب 200 صحافي . وجميع هؤلاء كانوا يتابعون قضايا فساد ، تتقاطع فيها مصالح كبار المسؤولين مع مصالح المافيا ، ولذا فإن حياتهم "معلقة على شعرة" ، حسب قولها .

وتقول الصحيفة ، التي لم تجد متسعاً في مقالتها لذكر قضية الخاشقجي ، أن لجنة الدفاع عن الصحافيين تستمر في إدانة ملاحقة الصحافيين في كلٍ من مصر وتركيا والصين وروسيا ، "وفي كل مكان ، لكن ليس في أوروبا" .

إن من يضيق صدره بانتقاد مصادرة حرية الكلمة في البلدان ، التي ذكرتها الصحيفة ، هو أعجز من أن يتعاطف مع قضية الحرية ، قضية جمال الخاشقجي ، حتى لو أراد ذلك ، وهو بالتأكيد لا يريد ، كما تشي أفعاله في سوريا.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها