السبت 2017/05/13

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

كُفرٌ صريح

السبت 2017/05/13
increase حجم الخط decrease
قبل 12 عاماً، وتحديداً في 14 أكتوبر 2005، حاصر مئات المسلمين الغاضبين أسوار كنيسة مار جرجس في محرم بك بالإسكندرية، احتجاجاً على عرض المسرحية الكنسية "كنت أعمى والآن أبصر" (العنوان مقتبس من آية في إنجيل يوحنا)، والتي تحكي قصة "مينا" القبطي الذي أغرته إحدى الجماعات الإٍسلامية بدخول الإسلام، ومنحته اسماً مسلماً هو "طه"، غير أنه يُصدم في الجماعة وتصرفات أميرها، ويعود في النهاية –كما هو متوقع من مسرحية دينية- إلى عقيدته المسيحية.

لم تكن المسرحية معروضة في ذلك اليوم ولا حتى في ذلك العام، بل عرضت - ليوم واحد فقط - قبل عامين كاملين من تجمهر الغاضبين حول الكنيسة، غير أن قرص "سي دي" يحوي تسجيلاً للعرض تسرب فجأة بعد هذين العامين، فتحدثت عن المسرحية، صحيفة محلية لم تكن واسعة الانتشار، إلا أن "خبر" المسرحية هو ما انتشر في أوسع نطاق. واعتبر متداولوه أن المسرحية، في أحسن الأحوال، تسيء إلى الإسلام والمسلمين، وفي أسوأها "تسبّ القرآن والرسول". بينما قالت الكنيسة، في بيان على لسان بابا الأقباط آنذاك شنودة الثالث، إن العرض لم يهدف سوى إلى مكافحة جماعات التطرف، ولم يتضمن أي إساءة للعقيدة الإٍسلامية. لكن الاتصالات بين الغاضبين بدأت بعد صلاة التراويح، يوم الخميس 13 أكتوبر 2005، ولم تكد تنتهي صلاة الجمعة في اليوم التالي، حتى تجمهر المئات، الذين زادوا إلى الآلاف خلال الأيام التالية، محاصرين الكنيسة، مرددين الهتافات الغاضبة والتكبيرات، ومانحين المسؤولين عن الكنيسة مهلة أسبوع للاعتذار.

حين انتهى "الحصار" يوم 21 أكتوبر، كان قد سقط ثلاثة قتلى في مواجهات مع رجال الأمن، وأصيب المئات، وطُعنت راهبة، وتحطمت سيارات ومحال مملوكة للأقباط، كما قرر مرشح الحزب الوطني الحاكم آنذاك، في محرم بك، القبطي ماهر خلة، التراجع عن خوض الانتخابات.

ورغم أن الغاضبين لم يحصلوا على الاعتذار الذي أرادوه من "البابا" (إذ كان الاعتذار ليُعدّ اعترافاً منه بالإساءة)، إلا أنهم أثبتوا، بالحصار المخيف، والمواجهات والدماء، إنهم لن يقبلوا نقداً، أو حتى "جلب سيرة"، من أي قبطي، حتى لو كان ذلك في سياق عمل فني ديني خالص، يقدمه بعض تلاميذ الثانوي، وليوم واحد لا غير، داخل أسوار كنسية مغلقة على روادها، وأمام جمهور مسيحي خالص لم يضم أي مسلمين.

وعلى العكس تماماً مما جرى، كانت حالة الشيخ سالم عبد الجليل.

لم يكن الشيخ، يوم الثلاثاء الماضي، جالساً داخل مسجد أو زاوية صلاة أو بيت، ولم يكن يخاطب مجموعة محصورة في مكان أو محدودة العدد. ورغم أن البرنامج الذي يقدم (أو كان يقدم) حلقته على شاشة "المحور" بعنوان "المسلمون يتساءلون"، أي أنه موجه إلى أهل عقيدة معينة، إلا أنه يبقى برنامجاً على قناة معروفة ومفتوحة للجميع ويشاهدها الملايين. كما أن قرار الشيخ المفاجئ بمخاطبة المسيحيين أثناء شرحه للآية الـ90 من سورة آل عمران "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضَّالُّونَ"، جذب انتباه المخاطَبين إلى الحلقة والبرنامج، فتداولت المواقع المسيحية مقطع الفيديو على نطاق واسع، تحت عنوان العبارة الأبرز فيه، والتي يخاطب بها الشيخ المسيحيين قائلاً: "عقيدتكم فاسدة، إرجعوا إلى ربكم".

من غير الضروري شرح قوة هذه العبارات، أو خطورة وضع "إخوة الوطن" في سياق "الكُفر". فذلك، باختصار، هو الخطاب ذاته لجماعات التطرف، والذي تحاول الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية أن تكسره. ومن هنا، زادت خطورة كلام عبد الجليل. فهو شيخ أزهري، ومستشار مجلس ديني حكومي، كما أنه وكيل سابق لوزارة الأوقاف. ومن ثم فإن مخاطبته المسيحيين "بالكُفر" و"فساد العقيدة"، ينقل تلك "الاتهامات" من مستوى "شيوخ التطرف" إلى الأزهر الذي يفترض أنه يمثل "الإسلام الوسطي المعتدل"، ذلك الإسلام الذي يفضل أن يشير إلى المسيحيين بوصفهم "أهل كتاب" و"مؤمنين" لا "كفار".

وجاء الرد الرسمي عاجلاً. قررت الحكومة (الأوقاف) منع الشيخ من صعود المنابر، ما لم يقدم "توضيحاً"، وأحالت شيخاً آخر إلى التحقيق لأنه تضامن معه، وأنهت المحطة التلفزيونية تعاقدها مع عبد الجليل، وسارع الأزهر (مجمع البحوث الإسلامية)، والمفتي، إلى تأكيد بأن تصريحات عبد الجليل لا تمثل الأزهر بل "تخالف عقيدته". كما تلقى عبد الجليل عدداً من بلاغات ازدراء الأديان، وحددت محكمة مصرية بالفعل موعداً لبدء المحاكمة الشهر الجاري.

المفاجأة هنا، هي أنه في مقابل رد الفعل الرسمي المضاد، جاء الرد غير الرسمي مختلفاً. فبغض النظر عن التعاطف السلفي المفهوم مع هكذا تصريحات، وقناعات الكثير من الناس بأن الشيخ سالم لم يكن يردد كلامه "بل كلام الله"، وأنه لا ينبغي له الاعتذار عن القناعة الإسلامية "البديهية" التي تقول إن جنة المسلمين للمسلمين لا لغيرهم من الأديان، إلا أن رأياً ثالثاً دافع عن الشيخ من منطلق "حقوقي"، يرى أنه لم يتجاوز حقه في الحديث عن قناعته الدينية، وإن التدخل في ذلك الحق، أو عقابه عليه، نوع من قمع التعبير والاعتقاد، حتى لو لم يكن للطرف "المقابل" ربع هذا الحق في الحديث العلني– ولا السرّي أحياناً كما في حالة مسرحية الإسكندرية - عن قناعاته الدينية المختلفة أو "المضادة".

هنا ينبغي التفكير، كيف لا يُعدّ توجيه اتهام بـ"فساد العقيدة" إلى أقلية دينية بأكملها، ومن رجل ينتمي إلى الأكثرية الدينية، أمراً لا يندرج تحت "خطاب الكراهية"، أو لا يدخل خانة "التحريض"، في منطقة من العالم حيث يُعدّ "التكفير" السبب الأول للعنف المجتمعي، وحيث لا تشير لفظة "الكُفر"في وعيها العام إلى مجرد اختلاف الديانة، بل إلى تاريخ عنف ومواجهة كاملة مع "الكفار"من زمن قريش في صدر السلام، إلى "جهاد" الروس أو الناتو في العصر الحديث، وحيث كلمة "كافر" تحتل مكانها في الكثير من الأمثال الشعبية، لتشير إلى كل شخص شرير غليظ القلب.

هكذا، فإن التلاعب بالكلمات في الدفاع عن الشيخ من منطلق أن "كل أهل ديانة هم كافرون بالديانات الأخرى"، وبالتالي إن تصريح الشيخ لم يأت بجديد ولم يعبّر سوى عن "الحقيقة"، هو تلاعب يتجاهل الحمولة الدلالية لكلمة "كافر" في الثقافة الإسلامية، وفوق ذلك يتجاهل النتائج الدموية اليومية لاتساع نطاق التكفير، وهي نتائج لا ينقصها بالتأكيد أن ينتقل التكفير من الزوايا الصغيرة وبؤر التطرف، إلى "تكفير صريح" على شاشات التلفاز وتحت عمّة الأزهر. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب