متي يتذكرنا الله يا أبي؟ كم هي الجملة موجعة، ومؤلمة، تزداد عجزا كلما جاءت على لسان طفل، وتزداد قدما كلما كررتها الأحداث، وقررتها على رقاب الناس قدرا محتوما، متى يا أبي؟
أديان، وشرائع، وأفكار، وأيديولوجيات، ونضالات، وما زال الفقراء هم الفقراء، كتب ودراسات ومراكز حقوق وأبحاث، وما زال الفقراء هم الفقراء، قصائد وروايات ومسرحيات وأغنيات وأمنيات، وما زال الفقراء هم الفقراء، شيوخ وكهنة وفلاسفة وأبطال، وما زال الفقراء هم الفقراء، يزدادون، يتجاوز الفقر طبقتهم إلى غيرها، يزداد اتساعا وانتشارا وبقاء وتمدداً. شيطان لا يموت، يأكل قلوب الضعفاء، ومن لا سند لهم، قبل أن يلتهم أقواتهم، وحقهم في العيش الكريم!
متى يتذكرنا الله يا أبي؟
في هذا العالم، كلما ازددت وعيا ازددت فقرا، دع هذا الكتاب على الرفوف، وانصرف، فإنك لا تعرف ما وراء القراءة من آلام، ستفهم أيها المسكين، وإذا فهمت ستغضب، وإذا غضبت ستعترض، وإذا اعترضت انطردت، وإذا انطردت كافحت وناضلت، وإذا ناضلت اتهموك، سيتهمونك بكل شيء يا غبي، بالخيانة والعمالة، بالحقد والكراهية، بالطمع والأنانية، بنكران الجميل، سيطردونك من جنة صمتهم عنك، سيحاصرونك بالصخب والسخرية والقبح، سيحولونك إلى مسخ في عين مرآتك، أنت نفسك، ربما تصدق أنك هذا الذي يدعونه، من جلدهم في الكذب، ورهافتك صادقا غير مصدق، وحين تدركك الهزيمة وينفض الرفاق عنك، ستعود وحدك تردد خلف "أمل": لا تحلموا بعالم جديد/ فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد!
"يا وحدنا"، نتطلع إلى الخبز في عالم تحكمه الرأسمالية، إلى الحرية في عالم يراقبنا فيه الأثير عبر هواتفنا، إلى الديموقراطية في بلاد البترودولار، إلى العدالة تحت حكم العساكر والشيوخ، إلى النضال تحت رايات حمر يقتات من ورائها القوادون، يبيعوننا في أسواق النخاسة لمن يدفع لكي ينال بركة الشهداء ودموع ذويهم أمام برامج التوك شو والمقدمات النارية!!
حتى هؤلاء الذين نظنهم معنا، ليسوا معنا، إنما هم مع من غلب، مع من يدفع، مع من يدعم ويمول، ويشتري ذمما وألسنة تلهج بالكذب الثوري، فمتى يتذكرنا الله يا أبي؟ كل من حولنا نسونا، كل من حولنا مروا علي أوجاعنا، أجسادنا، أحلامنا، لم يعد سوي الله يسمع ويرى، فمتى يحنو علي من ألقت بهم يد القدر في هذا الزمان بلا طوق نجاة؟ متى يجعل لكلماتنا أنباء أصدق من الرصاص، والبراميل المتفجرة، متى تخضر الأرض احتراما لعرقنا لا لدولاراتهم؟
أشعر بالعار لأنني آمن، أشعر بالخذلان لأن لدي بيتاً، سقفاً ودفئاً، وشبعاً، أشعر بالعدم لأن لدي صوتاً وكلمة ومتابعين، أنظر إلي أطفالي وأوبخ نفسي: لماذا جئت بهم إلي هذا العالم أيها المغرور التعس؟
-
لقد خلقنا الإنسان في كبد؟
-
أين ما يكابده الطغاة؟
-
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار؟
-
شخصت الأبصار في كل شبر في الأرض، ولا يزالون يظلمون
-
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
-
لا نسأل عما يفعل .. إنما عما لا يفعل مع من لا يسألون ...
يارب: لم نكفر، إنما نسأل، لعل السؤال يأتي بجواب، لعله يأتي بأمل جديد، لعله يوقظ ضمير ميت، لعله المسيح الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، لعله طرف الخلاص ... وحده السؤال من يحمل عنا هم الإجابة، لعله!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها