بالأمس كان الحكام العرب يستمدون جزءاً من شرعيتهم الشعبية - إن جاز التوصيف - من ادعاءاتهم الخطابية بالانشغال والاشتغال بالقضية، فيما هم يمارسون مفاوضاتهم السرية مع العدو الصهيوني، تثبيتا لوجوده في الأرض المحتلة ووجودهم - المرتبط به - على عروشهم وكراسيهم التي يحكمون بها بلاداً صارت هي الأخرى - بهم - محتلة!
واليوم استطاعت مصر أن تصدر تجربة السلام الدافئ، على مستوى الخطاب والممارسة، وبات كثيرون من حكام العرب يعلنون بشكل واضح وسافر ومقزز عن خياناتهم للقضية الفلسطينية إلى حد اتهام الضحية والانتصار لمنطق المحتل وروايته!!
فهل ماتت القضية؟
الشارع العربي أجاب في تظاهرات الايام الماضية. حراك شعبي وثوري تجاوز خريطة الوطن العربي إلى امتدادات إقليمية إسلامية في تركيا وإيران، وامتدادات إنسانية على الجانب الآخر من الشاطئ، حيث امتدت المظاهرات إلى العالم الأوروبي وخرجت في عواصم غربية شتى كان أبرزها لندن وبرلين واستكهولم ونيويورك التي تظاهر فيها مسلمون ومسيحيون ويهود يرفضون قرار ترامب الأخير من منطلقات دينية وأخلاقية وإنسانية ..
المشهد كان مبهرا، سيما في بلاد تعاني أشد المعاناة، مثل اليمن الذي خرجت فيه التظاهرات متجاوزة واقع الفقر والضنك والحرب والحصار والتجويع، ومع ذلك خرجت الجماهير لقضيتها، سورية بدورها في المدن الخارجة عن سلطة بشار، خرجت للدفاع عن روح القضية وإعلان الرفض، وهكذا كان حال بقية العواصم العربية
الجماهير لم تزل قادرة على تحديد بوصلتها دون أن تفلسف آلامها، أو تؤدلجها، فصاحب الألم لا يهتم بتصنيفه إنما بعلاجه فإن لم يجده فهو لا يكف عن الصراخ!
موقف النخب العربية جاء تائها ضبابيا مرتبكا كعادته، النخب الدينية في بعض البلاد اهتمت بالصراخ على المنابر لا في وجه الأنظمة إنما في وجه المصلين فهم الذين قصروا في حق القضية الفلسطينية حين قصروا في أداء صلواتهم، ورضوا بخروج نسائهم دون الحجاب، وتابعوا فنون العري والتهتك، قيل ذلك في مصر، وتداوله نشطاء على مواقع التواصل في إشارة إلى مدى ما وصل إليه الخطاب الديني من انحطاط وتردٍ!
في السعودية، وقف إمام الحرم الملكي - يوم جمعة الغضب لنصرة القدس - ليتحدث إلى الناس عن بر الوالدين، قديما قال العز بن عبد السلام من نزل بأرض تفشى فيها الزنا فحدث الناس عن حرمة الربا فقد خان!
النخب الثقافية بدورها انشغلت بالتصنيف الأيديولوجي للحزن والشعور بالألم والمرارة، وهل القضية عربية أم إسلامية، أم أن علينا أن نجعلها إنسانية وكفى، وهل فلسطين قضيتنا لأنها مسلمة أم لأنها مسيحية أم لأنها أرض مغتصبة وعلينا الانحياز لحق أصحابها التاريخي، وافترض المالطيون الجدد تعارضا متخيلا بين الديني والوطني والإنساني وظلوا يتراشقون بحجارة الأرض المحتلة، ولا يزالون يناضلون ..
نضال النخب لم يتوقف عند محاولة التصنيف اللوذعية،. بل تجاوزها إلى إلجام العوام عن "حق" الكلام، والبيان والتبيين في مخاطر التظاهر أو الهتاف أو إعلان التضامن أو استخدام اللافتات أو الصور وتغيير بروفايلات الفايسبوك وتويتر بصورة معبرة عن الدعم، كل هذه الشحنات النفسية الإيجابية اعتبرها نَفَر من مثقفينا دون المستوى السياسي والثوري اللائقين وعلى أصحابها مراجعة أنفسهم، وذلك بألا يفعلوا شيئا على الإطلاق وبأن ينضموا إلى ركب العدمية المباركة!
وحدها أنظمة الحكم في بلادنا المنكوبة، تعرف ما تريد، لا ما نريد، وتعرف كيف تمضي إليه، لا تلوي على شيء، ربما تُمارس بعض التشويش، تصدر بعض البيانات، تجاري غضبة الجماهير ببعض التصريحات، إلا أنهم يعرفون جيدا إلى أين، وإذا كانت بوصلة القضية عند الجماهير القدس، فهي عند الأنظمة واشنطون، وكما تشاء يشاءون!
المشهد يدعو - على غير العادة والمتوقع - للتفاؤل، فالجماهير/ الناس/ ملح الأرض، ما زالوا هنا، أحياء يحلمون، رغم ممارسات أنظمتهم القمعية، وخيانات مثقفيهم وشيوخهم، وإعلامهم، رغم الفقر والتجويع والثورات المضادة، رغم مليارات آل سعود وعيال زايد، التي أنفقوها للمزيد من دعم الطغاة وإذلال خلق الله في الأرض، رغم الخيانة والعمالة وبيع الأرض وصفقة القرن، رغم كل شيء، نحن هنا، لم يشأ الله أن يقبض أرواحنا الوثابة للعدل والحرية، نحن هنا وسنظل، وغدا لناظره قريب، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها