newsأسرار المدن

جمال عبد الناصر..اللعنة المباركة!

محمد طلبة رضوانالجمعة 2017/09/29
حجم الخط
مشاركة عبر

ما الذي يدفع مواطنا عربيا يعيش في العام 2017، بعد كل ما عانيناه من ويلات حكم الفرد أن يجد في نفسه انحيازا أو حنينا لجمال عبد الناصر؟!!

ما الذي يدفع كتابا ومثقفين وشعراء وروائيين إلى تناول عبد الناصر بوصفه قيمة، وحلما، وحالة يستحق صاحبها أن يُغفر له ما تقدم من جرائمه وما تأخر؟!

منذ أيام، كنت في زيارة للولايات المتحدة، أمام متحف المتروبوليتان أخذت التاكسي إلى مانهاتن، السائق أمريكي من أصل كولومبي، عجوز، تخطى السبعين، يسألني عن بلادي فأقول مصر فيرد: ناصر؟ هل تعرفه؟ لا أعرف غيره، ماذا تعرف عنه؟، يقول: سمعته وأنا صغير يؤمم قناة السويس، ينتزعها لشعبه من الأوروبيين، أحببته!، يبدو علي الاندهاش فيكمل العم فرانسيسكو: أنا لا أعلم ماذا فعل بكم بعد ذلك، لكنني أحببت بطل هذا المشهد العظيم .. صوته المنبعث من الراديو القديم ما زال يداعب خيالي وذاكرتي!!

عبد الناصر عسكري، جاء بانقلابين، الأول على فاروق، والثاني على قائده محمد نجيب، واستمر بانقلاب على عامر، ساعِده وشريكه، وتركنا بين هزيمتين: حزيران والسادات .. ضاعت سيناء، وضاعت من قبلها السودان، وضاعت الحياة السياسية والأحزاب، والتنوع، وحلم الديموقراطية، حتى الاشتراكية التي بشر بها خرجت من رحم الاستبداد مشوهة زائفة، فما الداعي لكل هذا الحضور؟!!

لا يقف التحليل حائرا أمام ذكرى ناصر وحدها، إنما يعود إلى ما قبل ذلك، فتدهشه لحظة الهزيمة، وتربكه لحظة الوفاة، قائد مهزوم، لطالما تغنى بأهازيج النصر المرتقب، ثم أغرقنا جميعا في مستنقع الهزيمة، مات من مات، وأسر من أسر، وعاد من عاد سيرا على الأقدام من سيناء إلى القاهرة الذليلة، رأيناهم وقد نهشت الهزيمة أجسادهم وثيابهم الميري وجردتهم من كرامتهم قبل أسلحتهم، ولطختهم بالدماء والعار، نسيناهم في أيام قليلة، ونزلنا بالملايين في تظاهرات حاشدة لتأييد القائد المهزوم ومنعه من الاستقالة وتجديد البيعة والحب!!

أي لعنة هذه؟!ٍ

لا يتعلق الأمر بشعب مغيب أو جاهل، فقد جاءت لحظة الوفاة لتثبت أن ثمة شيئاً يلزمنا الالتفات إليه في ظاهرة تشجيع ناصر، والالتفاف حوله رغم هزائمه وأخطائه المتكررة والمريرة.

حين تقرأ قصائد شعرائنا في رثاء ناصر تلمح خيطا رئيسا يتحرك بين الأبيات رغم اختلاف جنسية الشاعر ومذهبه السياسي والفني عن غيره، خيط يخبرك أن الجميع يرى في وفاته نهاية ما، وداع أخير لقيمة ذهبت ولن تعود!

نزار قباني صاحب هوامش على دفتر النكسة: يقول في رثاء صاحب النكسة:

قتلناك يا آخر الأنبياء/ قتلناكَ.. يا جبلَ الكبرياءْ/ وآخرَ قنديلِ زيتٍ/ .. يضيءُ لنا في ليالي الشتاءْ/ وآخرَ سيفٍ من القادسيهْ/ !!

أحمد فؤاد نجم، سجين ناصر، وصاحب "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا" يقول في جلاده بعد موته:

و إحنا نبينا كده/ من ضلعنا نابت/ لا من سماهم وقع/ ولا من مرا شابت/ ولا انخسف له القمر/ ولا النجوم غابت/ أبوه صعيدي و فهم قام طلعه ظابط/ ظبط على قدنا و ع المزاج ظابط/ فاجومي من جنسنا/ مالوش مرا عابت/ فلاح قليل الحيا/ اذا الكلاب سابت/ ولا يطاطيش للعدا/ مهما السهام صابت/ عمل حاجات معجزه و حاجات كتير خابت/ وعاش ومات وسطنا/ على طبعنا ثابت/ وان كان جرح قلبنا كل الجراح طابت/ ولا يطولوه العدا/مهما الأمورجابت!

المعنى نفسه تكرر عند صلاح عبد الصبور الذي وصف ناصر في حياته بأنه "ذو الوجه الكئيب"، وكذلك أحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد الفيتوري، ومحمود درويش، والجواهري، والأبنودي، وغيرهم الكثيرون!!

لقد أسس ناصر لكل ما نحن فيه من ويلات الحكم العسكري، ورغم ذلك لم يفقد بريقه ولم تفقد قصائد الشعراء فيه حرارتها، ذلك لأن ناصر – في ما أرى – كان حالة فريدة من "الخطاب"، ظاهرة صوتية عظيمة، موضوع تعبير يمشي على قدمين، كان يعرف كيف يتحدث إلى الناس، في الهزائم، في الانتصارات، في المواقف الحرجة، وفي الأيام الباردة الثقيلة، صوته الثائر، حماسته، كبريائه الذي لم تطفئه الهزيمة، كل ذلك أشعل في قلوب خصومه قبل مريديه جذوة لا تريد بدورها أن تنطفيء ،كنا نحتاجه، لنشعر أننا ما زلنا هنا، هو نفسه أدرك ذلك، ولعب عليه، وبه، وقاله – بصياغة هيكل - : "لست قائداً لهذا العالم العربي ولكننى مجرد تعبير عنه فى ظرف معين وفي زمان معين .. دوري فيه، هو بمقدار تعبيري عنه"

هذا هو ما نجح فيه ناصر رغم فشله وهزائمه، وهذا هو ما فشل فيه الآخرون رغم منجزهم – إن كان لهم منجز - وهذا ما ينبغي أن تتعلمه ثورات الربيع العربي ونخبها ومثقفيها وساستها وإعلامييها، كيف نتحدث إلى الناس، بلغتهم، بقلقهم، بهواجسهم، كيف نخاطبهم فيصدقوننا ويؤمنون بنا وينصروننا ولو هزمنا ألف مرة!





التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث