الإثنين 2016/11/28

آخر تحديث: 15:08 (بيروت)

في تحولات اليمين الفرنسي

الإثنين 2016/11/28
increase حجم الخط decrease

قبل أسابيع قليلة، كانت تشير استطلاعات الرأي الى انحصار المنافسة في الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح اليمين والوسط في فرنسا للانتخابات الرئاسية بين الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء السابق آلان جوبيه.  وفي الأسابيع الأخيرة بدأ رئيس الوزراء السابق فرانسوا فييون صعوده اللافت مطيحاً بكل الاستطلاعات واستمر الامر حتى تصدره بفارق كبير في الدورة الأولى ( 42 %) بفارق كبير عن جوبيه ( 28 %)  ومن ثم حسمه للسباق في الدور الثاني بنتيجة كبيرة تجاوزت  ال 65  %.

نجح فرانسوا فييون في تقديم خطاب يميني محافظ على المستوى الاجتماعي وليبيرالي متفلّت تماماً من أي عبء للدفاع (الشكلي بالحد الأدنى) عن المكتسبات الاجتماعية، غير مديني بمعنى أنه استطاع الوصول بخطابه الى المجتمع الفرنسي الريفي التقليدي الذي يشعر (عن حق أو عن وهم بالتهميش).

ثلاثة تيارات يمينية لا واحد :

في كتابه الشهير Les droits end France، يعتبر رينيه ريمون René Rémon ان اليمين في فرنسا يتضمن 3 تيارات تاريخية متجذرة في فرنسا العميقة والتي اعتبر دائما انها لا زالت مستمرة بأشكال مختلفة :
- التيار المناصر للملكية والمعادي للثورة الفرنسية légitimiste . عاد هذا التيار الى السلطة بين الأعوام 1815 و1830 والبعض يعتبر ان نظام وأفكار فيشي المعادية للجمهورية ومبادئها شكلت استمرارا لهذا التيار. كما ان اليمين المتطرف بنسخاته المختلفة وآخرها اليمين المتطرف اللوباني قد بدورها امتدادا لهذا التيار. في هذا المجال عملت مارين لوبن على احداث تغييرات جذرية في هذا اليمين من خلال توسيع قاعدته عبر تبني خطاب اقتصادي حمائي موروث من اليسار السيادي الذي كان يمثله جان بيار شوفنمان الرافض لمعاهدة ماستريخت. كما عملت على القطع مع الماضي المعادي للاسامية  لليمين المتطرف والمدافع عن الكولونيالية وعن حكم فيشي.


- التيار الليبرالي البرلماني المعروف أيضا بالتيار الاورلياني L'orléanisme ( نسبة للملك لويس فيليب من الفرع الاورلياني من سلالة البوربون والذي كان الملك الدستوري الأول). هذا التيار قد خرج لفترة طويلة من السلطة وبقي ممثلا بأحزاب يمين الوسط لا سيما UDF قبل ان يعود الى السلطة بشكل او بآخر مع فاليري جيسكار ديستان.


- التيار البونابرتي بما يمثله من حكم شرعي ديموقراطي يستند الى حكم الفرد والحضور السلطوي للقائد مع خطاب اجتماعي شعبوي نسبيا وأقل ايمانا بالنظام البرلماني لصالح سلطة تنفيذية قوية. يعتبر اليمين الديغولي الوريث المباشر والشرعي لهذا التيار ومن ثم الشيراكية السياسية التي حافظت بالحد الأدنى على التزامات اجتماعية أكثر من التيار الأورلياني.

بقيت الثنائية داخل اليمين الفرنسي مستمرة مع وجود حزبين أو أكثر: الأول استمرار للديغولية البونابرتية مع شيراك والثانية ليبيرالية برلمانية مع جيسكار ديستان ومن أتى بعده. وفي العام 2002 يتم تأسيس حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الذي جمع للمرة الأولى في تنظيم واحد كل تشكيلات اليمين الرئيسية من أجل الحؤول دون تكرار عملية وصول اليسار الى السلطة.

لماذا فاز فرانسوا فييون ؟

يمتلك فييون خبرة رجل الدولة حيث بقي رئيسا للوزراء طوال السنوات الخمس من عهد ساركوزي لكنه في المقابل وامام احتلال ساركوزي للفضاء العام السياسي استطاع ان يحيّد كل المقربين منه وبالنتيجة تحمّل لوحده إرث عهده السيء. في المقابل، فان إرث ساركوزي وخسارته في العام 2012 اخرجته من السباق. لم يستسغ الناخب اليميني الفرنسي الخطاب الجامع والمنفتح على عموم المواطنين الفرنسيين. الناخب اليميني الفرنسي يزداد يمينية وجذرية في ظل حكم اليسار وعدم قدرته على إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية. في المقابل، قدم فرانسوا فيون خطابا يمينيا يلامس التاتشيرية على المستوى الاقتصادي ومحافظاً على المستوى الاجتماعي. يمين يكمل قطيعة مع التسوية التاريخية التي أنجزت في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية والتي أرست مفهوم الدولة الاجتماعية الفرنسية، والذي يعتبر أنه بالتزامن مع وصول تاتشر وريغان الى السلطة،  كانت فرنسا خارج السياق التاريخي في انتخابها للاشتراكي فرانسوا ميتران.

هل حسمت الانتخابات الرئاسية ؟

أمام التقهقر التاريخي لليسار الفرنسي والذي يتجه بخطوات ثابتة نحو هزيمة ساحقة قد تكون أشد وطأة من الانتخابات النيابية للعام 1993  التي لم يحصد فيها الحزب الاشتراكي أكثر من 52 مقعدا من أصل 577، تتجه الانتخابات الرئاسية كي تنحصر في دورتها الثانية  في ربيع 2017 بين فرانسوا فييون من جهة ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن من جهة أخرى .على الرغم من خطورة صعود اليمين المتطرف في فرنسا والذي قد يلامس ال 30 % الا أن دينامية الانتخابات الاميركية تختلف جذريا عن دينامية الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي لا تسمح بنجاح لوبن.   

حتى هذه اللحظة من غير الواضح ان كنا نشهد بالفعل تغيّرا عميقاً وانعطافة تاريخية في بنية اليمين الفرنسي او هي ربما مجرد انحراف مؤقت بسبب الازمة التي تواجهها فرنسا وفشل هولاند في سنوات حكمه الخمس؟

في كل الأحوال، الدينامية الاجتماعية للسياسة في فرنسا، على بطئها، مرتبطة اليوم أكثر من اي وقت مضى بقدرة فييون على الوفاء بوعوده الليبرالية التي يحاول ان يسوّقها بصفتها الحل الوحيد الذي يسمح لفرنسا ان تخرج من أزمتها الاقتصادية.  اليوم تتجه فرنسا بخطى ثابتة لاختيار أكثر برنامج انتخابي يميني في تاريخ الجمهورية الخامسة. يبقى ان تنفيذ هذه الوعود الانتخابية لن يكون بالأمر اليسير خاصة أنه سيواجه اعتراضا اجتماعيا نقابيا وشعبيا حين يبدأ الإطاحة تباعاً بكل المكتسبات الاجتماعية.

(*أستاذ مساعد في القانون العام في جامعة بيروت العربية)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها