الخميس 2013/03/21

آخر تحديث: 09:54 (بيروت)

متى تفجرت الثورة واين؟

الخميس 2013/03/21
increase حجم الخط decrease
    في 15 آذار قبل عامين تفجرت الثورة السورية أم في 18 آذار ؟ وقت خرجت مظاهرة من عشرات من الناشطين المعروفين في "الشام القديمة"، أم بعد ذلك ببضعة أيام، موعد اعتصام أهالي درعا في "المسجد العمري"؟
هناك إجماع حوراني (حوران هي الاسم العام لمحافظة درعا) على يوم 18 آذار، فيما الموعد الشائع إعلاميا هو الأول. 
ووراء الاختلاف في تحديد موعد وموقع تفجر الثورة رهانات سياسية. ففي ثنايا النقاش المحتدم  حول متى وأين، هناك السؤال المهم: من؟ من سبق إلى الثورة؟ تعود الإجابة على السؤال بأفضليات معنوية وسياسية على من تحسم الأسبقية لصالحهم، وتسبغ شرعية أكبر على تطلعاتهم. الإقرار بأن درعا "مهد الثورة" قولا وفعلا، يعطي "الحوارنة" حقا أكبر في المطالبة بنصيب أكبر على مستوى السلطة والتنمية، فضلا عن مردوده المعنوي. 
لكن في الأمر أيضا ما يتصل بتكوين الثورة: فهل هي ثورة من تحت، شعبية ومحلية، وتمثل أساسا مقاومة بيئات شعبية سورية لنظام للسلطة والثروة الأسدي؟ أم هي ثورة من فوق، أوثق صلة بتكوين الطيف السوري المعارض قبل الثورة؟ 
نرى أن سير الثورة واستمرارها يسوغ اعتبار الموعد الدرعاوي هو البداية الحقيقية للثورة. ليس فقط لأن الثورة ابتداء من ذلك اليوم أخذت تعم وتتوسع دون توقف طوال عامين، وإنما لأنه في اعتصام درعا انكسر النسق النخبوي المألوف للاحتجاجات السورية. 
قبل الثورة، ومنذ بداية سنوات حكم بشار الأسد تقريبا، تجري أنشطة احتجاجية علنية، حصل مرات أن توسلت التجمع في الفضاء العام تعبيرا عن نفسها، وساحة هذه الاحتجاجات هي دمشق عموما، تتلوها حلب، ثم حمص. سيلزم في يوم قريب كتابة تاريخ لهذه التجارب الاحتجاجية. لكن جمهورها كان محدودا ونخبويا، مكونا أساسا من معتقلين سابقين وناشطين سياسيين وشبان جامعيين أو متخرجين حديثا، يحاولون القيام بدور عام. وقلما احتشد في أكبر هذه التجمعات ما يتجاوز 200 شخص.  
ومن سمات تلك الاحتجاجات أيضا أنه قلما يكون جمهورها محليا. في اعتصامات انعقدت في دمشق كان الجمهور مكونا من مجموعات سورية عابرة للمناطق، إن جاز التعبير، أكثرهم مقيمون في "الشام"، لكن ليسوا "شواما" في أكثريتهم. وكان يحصل أن يفد ناشطون من حمص أو السلمية أو حلب أو الرقة للمشاركة في تجمع احتجاجي في دمشق قلما يتمكن من الالتئام أصلا، ويغلب أن يكون عدد عناصر المخابرات وقوات حفظ النظام أكبر من عدد المشاركين. 
السمة الثالثة للاحتجاجات السابقة أنها "رمزية" غالبا، تنعقد في ذكرى أو مناسبة (8 آذار يوم إعلان حالة الطوارئ، 10 كانون الأول يوم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 21 حزيران يوم المعتقل السياسي،...). وقلما تكون احتجاجا مباشرا على وضع محدد. 
وكانت القضية الدائمة هي "الحريات العامة". 
هذا التجرد المتعدد الوجوه: من المصلحة المباشرة، ومن الدافع الظرفي، ومن الارتباط بمواقع العيش (انعقدت التجمعات في مراكز المدن، حيث تسكن شرائح أعلى من الطبقة الوسطى)، يعطي فكرة عن الوضع العضال لنخبة المعارضة السورية قبل الثورة. وبخاصة الانفصال عن أية قوة اجتماعية حية، أو "حامل اجتماعي". 
على أن من الاحتجاجات ما لم يكون رمزيا، لكنه مرتبط بقضية الحريات نفسها. من ذلك وقفة تضامنية لعشرات أمام محكمة أمن الدولة في دمشق صيف وخريف 2002، وقت محاكمة ناشطي "ربيع دمشق"، ومنها وقفة مماثلة تضامنا مع 14 ناشط كانوا يحاكمون أمام القضاء العسكري في حلب عام 2003. 
لكن أهمها وأوثقها قربا من مطالب حياتية ومن المعنيين بالأمر مباشرة، اعتصام لطلاب من جامعة حلب عام 2004 عند صدور مرسوم يُحِلُّ "الدولة" من التوظيف الإلزامي لخريجي كليات الهندسة. 
الجديد في اعتصام درعا أنه شعبي (غير نخبوي) ومحلي (غير عابر للمناطق وغير منفصل عن المكان الحي)، مرتبط بحدث معين، اعتقال الأطفال وتعذيبهم، ثم إهانة ذويهم. وأنه رغم طابعه المحلي الظرفي، موجه بصورة واضحة ضد نمط ممارسة السلطة. شارك في الاعتصام أهال من عموم سكان درعا، ولجؤوا في احتجاجهم إلى مكان تجمع عام، وذي رمزية كبيرة، ربما ظنوه يعود عليهم بالحماية الأكبر، الجامع العمري. 
خلافا لذلك كان المشاركون في الاحتجاجات الدمشقية أيام 15 و16 و17 آذار 2011، "سوريون عامون"، عابرون للمناطق و"مجردون"، ليسوا من "العامة"، وأكثرهم غير محليين. 
لكن لماذا ليس تجمع المحتجين في سوق الحريقة في 17 شباط 2011 هو البداية؟ لدينا هنا جمهور شامي محلي وشعبي، وإن يكن من الطبقة الوسطى التجارية، واحتجاجه مرتبط بواقعة ظرفية محددة، لكنها ذات قيمة عامة: إهانة شرطي لمواطن، وعدده كبير بالمقاييس السورية حينها: بين 2000 و3000. علما أنه لأول مرة سمع في هذا التجمع الهتاف الشهير: الشعب السوري ما بينذل! وهو يحمل أيضا أصداء السياق التاريخي: ثورتا تونس ومصر.
لا ريب أن هذا الموعد سيعتبر من بوادر الثورة السورية في نظر المؤرخين. لكن عدا أنه أمكن للنظام احتواءه بسرعة، سيمر شهر كامل قبل أن ينطلق مسلسل الثورة دون توقف.
وفي المحصلة نرى أن 18 آذار في درعا يسجل قطيعة مع أنماط الاحتجاج قبله، وليس استمرارا لها. قطيعة على مستوى المحركات والدوافع والقاعدة اجتماعية وأدوات التعبير والمقاومة، والقدرة على الاستمرار.     
يبقى أن هناك وضعا خاصا في الأنشطة الاحتجاجية السورية لانتفاضة الكرد في آذار 2004. فهي شعبية، شارك فيها الجمهور الكردي في معظم مناطق تواجده في سورية، ويرى بعض المهتمين أنها كانت فرصة ضائعة لانتفاضة سورية عامة. أجادل في هذا التقدير الأخير كثيرا. في خلفية الانتفاضة الكردية التقاء مظالم كبيرة وقديمة مع تغير الوضع في العراق إثر الاحتلال الأميركي. وما كانت الفرصة مهيئة بحال لانتفاضة سورية عامة حينها. 
لكن هذا نقاش آخر.       
 
 
 
 
increase حجم الخط decrease