الأربعاء 2013/12/04

آخر تحديث: 20:21 (بيروت)

مظلوميات تحكمنا

الأربعاء 2013/12/04
increase حجم الخط decrease
شعور "المظلومية"، الصادق أو الكاذب، يقع في خلفية الكثير من مواقف وسلوكات التجمعات والقوى القائمة، السياسية والمجتمعية والطائفية والعرقية، ولا يقتصر  على حزب الله "الإيراني"، على الرغم من أن مظلومية الأخير هي الأكثر ادعاء وزيفاً. هناك مظلوميات أخرى في الواقع القائم، وهي لا تقارن بالتأكيد لا من حيث التوجه ولا من حيث المستوى بما لدى الحزب السابق الذكر، لكن هذه المظلوميات تفسر أحياناً (وليس دائماً) مواقف بعض القوى والأشخاص.
 
هناك مثلاً مظلومية حزب العمل الشيوعي المعارض الذي ظل يشعر أنه منبوذ على الدوام من الحركة السياسية المعارضة، بخاصة التجمع الوطني الديمقراطي (بشكل رئيس حزب المكتب السياسي الذي أصبح حزب الشعب فيما بعد) الذي رفض في محطات عديدة انضمام حزب العمل إلى صفوفه طوال ربع قرن. ومظلومية أخرى برزت بعد الثورة عند قسم منه، وقد تجلت، على ما يبدو، في أن الثورة السورية قد جاءت لتعطل أحلامه في قيادة الطبقة العاملة السورية نحو التخلص من البرجوازية والإمبريالية وأعوانهما، فما كان من هذا القسم في حزب العمل إلا أن نقم على الثورة التي لم تأت متوافقة مع المقاسات البلشفية، ولم تنتظر قيادته لها، والعمل بوحي وصفاته الثورية.
 
وهناك مظلومية البعث الديمقراطي إزاء بعث السلطة، وهو الذي قضى أعضاؤه سنوات عديدة في السجون بعد أن كانوا في السلطة، وما زالوا يشعرون أن هناك من زيَّف البعث وأهدافه وأفكاره واختطف السلطة منهم، ليضع البعث برمته في موضع المتهم بارتكاب سائر الموبقات. 
 
وهناك مظلومية حزب الشعب (الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي سابقاً) الذي ظل الكثيرون في الحركة السياسية السورية ينظرون إلى قيادته نظرة متوجسة باعتبارها قد اختطت خطاً غريباً بتحالفها الصريح أو الضمني مع الإخوان المسلمين في الثمانينيات، وقد دفع بعض أعضائه ثمناً كبيراً بسبب ذلك لا تقوى على حمله الجبال.
 
وهناك أيضاً مظلومية الإخوان المسلمين في سورية الذين ذاقوا القتل والتشريد على يد النظام لسنوات عديدة، وهي المظلومية التي أرخت بظلالها على المناخ السياسي العام في سورية طوال عقدين، قاطعةً الطريق على مجمل الحركة السياسية المعارضة. وعندما قامت الثورة لم يفكر الإخوان المسلمون بضرورة التقاط أنفاسهم والتفكر في الوضع الجديد، وظنوا أن الثورة قامت لتنصفهم، فلم يتركوا فرصة لتجاوز تلك "المظلومية"، مع أن شباب الثورة كانوا يصدحون ليل نهار "لا إخوان ولا سلفية". وهناك أيضاً "مظلومية" الإسلاميين عموماً من جميع الاتجاهات إزاء التيارين القومي واليساري اللذين سيطرا على الساحة، ولم يسمحا للإسلاميين بأي دور سياسي طوال أكثر من سبعين عاماً، والأنكى أنهما لم ينتجا إلا الهزائم والفقر والفشل والأزمات.
 
وهناك "مظلومية" القوى السياسية الكردية التي تدافع محقة عن حقوق السوريين الكرد الذين تعرضوا لانتهاك حقوقهم السياسية والاقتصادية طوال أكثر من نصف قرن، وهي منذ بداية الثورة ترتكز إلى هذه "المظلومية" في علاقتها بجميع القوى السياسية الأخرى، وفي مقاربة دورها في الواقع القائم وفي مستقبل سورية، مع أن السوريين الكرد –بخاصة في أشهر الثورة الأولى – كانوا أكثر تجاوزاً للمظلومية وأكثر تعلقاً بالمستقبل المأمول من قواهم السياسية، وأكثر تطوراً منها.
 
وهناك "مظلومية" الاتحاد الاشتراكي الناصري الذي ظل ينظر ضمنياً للبعث الحاكم باعتباره قد اختطف "ثورة آذار 1963" من بين يديه. وبعد قيام ثورة آذار 2011 ظهرت "مظلومية" أخرى لديه، فقد كان هذا الحزب حتى قيام الثورة الحزب الرئيس من حيث العدد في المعارضة السورية، ولطالما كان يطالب في جميع محطات العمل المعارض بتمثيل مضاعف أو بدور مميز، إلا أن الثورة وضعته في حجمه الطبيعي، وصدمت رغبته الدائمة بلعب دور الحزب القائد، حتى أنه تمزق إلى كتل ومجموعات مختلفة في موقفها السياسي.
 
وهناك أيضاً "مظلومية" هيئة التنسيق الوطنية بشكل عام، التي نمت وترعرعت حدّتها بعد الثورة بأشهر، بحكم انفضاض النسبة الأعظم من أهل الثورة عنها، وبالطبع فإن المسؤول الأساسي عن ذلك هو الهيئة ذاتها بحكم خطابها السياسي وأنماط تفكير وأداء بعض شخوصها. وللأسف لم تحاول الهيئة – على ما يبدو -  تغيير أدائها وخطابها، بل على العكس قادتها مظلوميتها إلى ما يشبه تفكير الجكارة والشماتة في محطات عديدة، حتى أن بعض المنضوين فيها كان يتمنى ضمنياً فشل الثورة جكارة بالثورة وقوى المعارضة الأخرى. وربما كان الخطاب الفرح الذي ظهر بخصوص ضربة الكيماوي أكثر المحطات وضوحاً، إذ سارع بعض شخوصها خلال ساعات إلى اتهام المعارضة والجماعات الجهادية وتبرئة النظام.
 
وهناك "مظلومية" المجلس الوطني السوري الذي ينظر إلى الائتلاف الوطني باعتباره كان محاولة لتقويضه، إذ لم يكن الائتلاف سوى محاولة لإضافة بعض الأسماء المعارضة التي كانت ضمن المجلس الوطني أصلاً وخرجت منه لأسباب شخصية في معظمها، فضلاً عن خسارة المجلس للدعم الكبير الذي حصل عليه إبان تأسيسه.
 
وهناك "مظلومية" المعتقلين لسنوات طويلة في سجون النظام قبل الثورة، والمخضرمين في العمل السياسي، وهم الذين أرادوا من الثورة – صراحة أو ضمناً - تعويضهم عن معاناتهم والظلم الذي وقع بحقهم، واتخذ هذا المطلب في أحايين كثيرة شكل التهافت والتنازع على منصب هنا أو هناك، مع أن الثورة كانت تقول لهم في كل لحظة أنهم مؤقتون، وأن الأجيال الشابة قد دفعت أثماناً باهظة هي الأخرى، قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وتشريداً.
 
وهناك "مظلومية" المنشقين على النظام السوري الذي لم تستقبلهم المعارضة التقليدية ولم تعترف بهم، بحكم ضيق أفقها وتحول مظلومياتها إلى حالة مرضية منعتها من رؤية إلا نفسها. وكذلك "مظلومية" الحراك المدني السلمي تجاه العسكر، و"مظلومية" المقاتلين إزاء السياسيين، و"مظلومية" سوريي الداخل عموماً إزاء سوريي الخارج. ويضاف لهذه المظلوميات المعيقة "مظلومية" سورية عامة إزاء العالم كله، بعربه وعجمه، شرقه وغربه، الذي لا يزال يتفرج على مأساة السوريين، إلى جانب "مظلومية" عامة أخرى تتجلى بسعي الجميع للاعتراف بدورهم ووجودهم ومآثرهم بعد عقود من الإقصاء والتهميش والتغييب.
 
لا شك أن المشاعر القائمة على "المظلوميات" معيقة لأي عمل وطني في أي مستوى كان، فهي تخلق حواجز دائمة بين البشر، وتمنع تواصلهم وتشاركهم في تجاوز محن الحاضر وفي بناء المستقبل، فضلاً عن أنها تعمي البصر والبصيرة عن رؤية الواقع المتحول. عندما تكون مشاعر "المظلومية" مسيطرةً والأساسَ المحرك للخطاب والممارسة السياسية، فإن أصحابها سيكونون بالضرورة عصابيين وموتورين ولا يحترم أحدٌ منهم أحداً، ومفتقدين لحاسة السمع الضرورية لأي حوار، وستنشط لديهم آليات التصنيف المعيقة، وتنمو مظاهر التمترس وراء الأخطاء الذاتية، جنباً إلى جنب مع تبادل الاتهامات والتخوين والتقليل من شأن الآخرين.
 
الصحة النفسية ضرورية للصحة السياسية، ومن دونها ستكون الممارسة السياسية شكلاً من أشكال احتراب القبائل، وسيكون الخطاب السياسي مجرد قذف وتشهير وتصنيف وتحميل مسؤوليات. أكاد أجزم أن الثورة السورية لم تفهم نفسياً قط، إنها لم تقم من أجل مظلوميات أو ترهات أي أحد، كان لها منطقها الخاص بها، والجميع كان ضدها من حيث يدري أو لا يدري، جهلاً أو مكراً.
 
كلنا أبناء "مظلوميات" على ما يبدو، ونحتاج لفهمها واستيعابها وتجاوزها كي نستطيع النظر إلى الأمام. وحده النظام السوري لا يشعر بأي "مظلومية"، فقد أكل الأخضر واليابس، وورث الأرض وما عليها، فهل يعي المظلومون أن فهمهم لمظلومياتهم و"مظلوميات" الآخرين هو البوابة الأولى التي عليهم أن يلجوها كي يتقدموا خطوة في طريق التخلص من الظالم الأكبر؟!
 
increase حجم الخط decrease