الخميس 2013/12/12

آخر تحديث: 11:21 (بيروت)

بارقة فلسطينية

الخميس 2013/12/12
increase حجم الخط decrease
 وفي زمن خيبات الربيع العربي ومآلاته المحبطة، يأتي النداء من الداخل الفلسطيني، من"الحراك الشبابي"الذي خرج الى الشارع بوحي من شباب تونس ومصر وليبيا وسوريا في حراكهم العفوي الاول، وعاد بنصر عزيز يحلم بمثله كل عربي. 
كان مشروع برافر الاسرائيلي عنوان ذلك الربيع المستعاد من عمق الداخل الفلسطيني: من دون تخطيط او تدبير او إستئذان، انتظم شباب اراضي ال48 وحدهم، لمواجهة طغيان النظام الذي كان يريد ان يقتلع 800 ألف مواطن من ارضهم التاريخية في صحراء النقب، ويهجرهم الى كانتونات صغيرة مغلقة، وساروا في تظاهرات متلاحقة تعيد الى الاذهان الايام الاولى من الثورة التونسية او المصرية او السورية، التي اطلقتها نخب عربية مثقفة، فاجتذبت اليها بالتدريج جمهورا شعبيا واسعا كسر حاجز الخوف وتمكن في النهاية من الاطاحة بالطغاة واحدا تلو الاخر..
كأن اولئك الشباب الفلسطينيين الذين أرتقوا حتى على احزابهم ومؤسساتهم السياسية والاجتماعية في الداخل أرادوا تبديد اليأس السائد في كل عاصمة عربية زارها الربيع ثم ارتحل عنها بسرعة، واشاعة الأمل في إمكان ان تعود الثورة الى سيرتها الاولى السلمية والمدنية، التي تكتفي بشعارات الحرية والعدالة والديموقراطية، وتدرء الحروب الاهلية او الاضطرابات التي خلفها الطغاة وامثالهم واعادت الغالبية الشعبية الساحقة الى صمتها القديم وترددها السابق. 
كانوا يدركون الحساسية الخاصة لحراكهم في وجه نظام الاحتلال الطاغي، على مرأى ومسمع من مناهضيه التقليديين في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين اسقط من يدهم.. وكانوا يعرفون ان الربيع العربي لم يصل الى هاتين البقعتين المحاصرتين من كل الجهات، وربما لن يصل ابداً.. لكنهم قرروا ان  الوقت قد حان والمخطط الذي اعده النظام هو بمثابة نكبة ثانية تورث الى الاجيال الفلسطينية الجديدة وتطيل امد الدكتاتورية الاسرائيلية لخمسين او ستين سنة اخرى. 
كان حراكهم نسخة طبق الاصل عما فعله شباب تونس والقاهرة وبنغازي وحمص، سواء في التواصل والتنظيم والتعبئة والتجمع في مكان واحد والالتزام بجدول اعمال موحد ولافتات وهتافات مشتركة، ترسخ الصلة الوطنية العميقة اصلا بين بيئات متباعدة جغرافيا ومحاصرة أمنيا على امتداد ما يعرف باراضي ال48 التي رسمت حدودها الداخلية وفق قوانين الفصل العنصري.
كانت ثورة فلسطينية مصغرة ومحدودة في المكان والزمان، والأهم انها انتصرت في الوقت الذي يبدو فيه ان الثورات العربية الاخرى تخمد او تضيع بين طغيان الامس واستبداد الغد، بين تلك الثنائية الامنية والدينية التي كان تحطيمها حلم الشباب العربي ولا يزال. ولعل انتصارها كان وليد الحنكة التي تمتع بها النظام الاسرائيلي، وافتقدتها انظمة عربية تربطها به اوجه شبه عديدة، وتحالفات عميقة.. كانت من اول واهم ضحايا الربيع العربي حتى اليوم.
اسقاط مخطط برافر على يد الثوار الفلسطينيين في اراضي ال48، يمثل بارقة يمكن ان تتحول الى شعلة فلسطينية جديدة، بعدما تقطعت السبل ببقية الفلسطينيين في الضفة وغزة والشتات، وصارت المقاومة خيالا بعيدا، والمفاوضات سرابا مقيما.. وبعدما انقطعت الصلات بين الداخل الفلسطيني، على درجاته الثلاث، وبين الرأي العام العربي الذي اضطر الى تنحية القضية الفلسطينية جانبا، والتعاطي معها باعتبارها عبئا اخلاقيا قديما، او مادة ثقافية او اكاديمية تناقش في المؤسسات والمؤتمرات الفكرية.
سقوط مخطط برافر قدم اجابة واضحة ومحددة وبسيطة جدا على سؤال فلسطيني جوهري شغل المشاركين في مؤتمر المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات قبل أيام في الدوحة، عن مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني: طالما ان اسرائيل ليست في ازمة، والصهيونية ليست في مأزق، بل هي تتجدد اليوم بنقيضها الاسلامي المتشدد، وطالما ان المصالحة بين سلطتي رام الله وغزة لا تنتج سوى اوهام وطنية: لا مانع ان يصدر النداء هذه المرة من عمق الداخل الفلسطيني، الذي يتمتع بهامش سياسي واسع وأفق فكري ارحب من اي مكان يخيم فيه الفلسطينيون على رجاء العودة، وعلى أمل الثورة التي يمكن ان تطوي صفحة الاستغلال الرخيص للقضية، طوال نصف قرن مضى، سواء من قبل النظام الفلسطيني نفسه، او من قبل انظمة الطغيان العربي. 
increase حجم الخط decrease