الثلاثاء 2013/01/29

آخر تحديث: 05:20 (بيروت)

نفاق أممي

الثلاثاء 2013/01/29
increase حجم الخط decrease
بعثة الأمم المتحدة تصاب بالصدمة من هول الدمار الذي رأته في سورية، هذا هو مانشيت الصحف العربية والدولية لهذا الأسبوع، ويقنيا أن المراقبين النظيفين، الأنيقين، وهم يتجولون في المدن السورية، لا بدّ شاهدوا ما لم يخبرهم به احد، وكأن المعارك التي ظلّت تدور منذ سنتين كانت في كوكب آخر. وكأنّ موظّفي الأمم المتحدة لم يزوروا سورية سابقا، لاستقصاء جرائم حقوق الانسان، ولتوزيع الغذاء على المهجّرين، ولمراقبة الهدنات المتكرّرة التي بدأت مع المراقبين العرب بقيادة الدابي، ثم بهلوانيات كوفي انان، وأخيرا مكّوكيات الأخضر الابراهيمي الذي كان ينحني باحترام لبشار الأسد كلما دخل القصر الجمهوري في دمشق.
أما لماذا صُعق الوفد الأممي لمرأى حجم الدمار فمردّه بالتأكيد الى المفاجأة الضخمة التي لم يكن يتصوّرها حتى في الأحلام: عمارات مقصوفة بهاونات ثقيلة، أي لا يمتلك مثلها سوى جيش النظام، وبيوت بالعشرات سويّت بالأرض لا يمكن ان تهندس خرابها بهذا الشكل سوى صواريخ ارض ارض، سكود روسية، عباس ايرانية، وهلمجرا.
كما شاهدوا تدمير الجسور، والطرق، والعمارات، براجمات الصواريخ، وكيف تحولت أسواق حلب إلى خانات يعود تاريخها الى القرون الوسطى. وشاهدوا كيف نُهبت القلاع الحمدانية، والبيزنطية، والسلجوقية، والفينيقية، تحت بصر الجيش المقاوم، ثم لتُدكّ لاحقا بطائرات الميغ، وحوّامات غورباتشوف، وسمتيات بوتين، وبارجات لافروف المدرّعة السابحة على امواج البحر الأبيض المتوسط. فالحرب الدائرة منذ سنتين بين النظام والشعب لم تكن حرب قنابل وصواريخ وراجمات كما يعتقد مراقبو الأمم المتحدة المندهشون، بل تصوّروها حربا كلاسيكية تدور رحاها بالقوس، والنشاب، والمنجنيقات، والمصهورات النارية المصنوعة من القار، حيث أقصى ما تحدثه من خراب سيكون تهديم سور في قلعة دمشق، او باب عتيق في حصن المضيق، او هدم كنيسة ارثودوكسية على مشارف مدينة القصير.
لا يمكن لهم تصور أن ما كان يستخدم خلال عشرين شهرا هو البارود الحي، والمتفجّرات، والدبّابات، والطائرات، والعنقوديات، وان من كانت تقع عليه الحمم ليس البنايات فقط بل هم البشر، لذلك فوجئوا جدا بأنّ شهداء الثورة تجاوزوا الستين الفا، رسميا، اما العدد الحقيقي فبالتأكيد يزيد على المئة الف، عدا ملايين النازحين في العراق ولبنان وتركيا والأردن ومجرة الصليب الأحمر في جزر الواق واق. ألنفاق الأممي لا يبزغ، وينعب، في أروقة الأمم المتحددة فقط، بل هو يتصاعد من الحواضر العالمية التي أعلنت عن تأييدها المطلق لثورة الشعب السوري، ثم ما أن رأت جدّية ما يحدث حتى بدأت بالتراجع شيئا فشيئا عن حماستها. باريس تنشغل بحروب مالي، الولايات المتحدة تنشغل بالتفتيش مجهريّا عن الأصوليين والإرهابيين في أزقّة حمص وحارات دير الزور وساحات داريّا، وبريطانيا تجد صعوبة في إيصال المساعدات في شتاء قارس كالذي تمرّ به أوروبا. نتمنّى ان لا تُذهل الولايات المتحدة أيضا من حجم الدمار الذي لحق بسورية، فهي على الأرجح قد نسيت تشغيل عدسات أقمارها الصناعية لكي تلتقط صورا لحظيّة لما يجري في الخارطة الشامية المنكوبة. أو ربما تناست ذلك، الدولة التي لا تنام، كونها لا تريد رؤية حجم الدم المنسكب في الأرض السورية، خاصة وانه كلما امتدّ الدمار وشمل الأرض والسماء، البشر والحجر، كان افضل للمنطقة.
سورية ستحتاج إلى عشرات السنين لكي ترمّم أعضاءها. عشرات السنين كافية لكي ينتقل حليفها الصغير، حليف سيّدة الأرض، ألمطل على الجولان، الى مرحلة حضارية وعلمية أرقى وأبعد، فلا يمكن اللحاق به في المئة سنة القادمة. أما الإنسان السوري فليذهب  الى الجحيم، مرفوعا على أجنحة صواريخ ارض ارض، وطائرات الميغ، وألسنة راجمات الصواريخ التي تحمل رائحة دوستويفسكي الكثيفة، القادمة من أقبية بطرسبورغ القيصرية.


increase حجم الخط decrease