وتظهر الصورة التي جرى تناقلها من أكثر من زاوية، راية سوداء مكتوب عليها: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وهي الصيغة نفسها التي يعتمدها تنظيم "داعش" كشعار رسمي له منذ ظهوره العلني العام 2014.
وحسب ناشطين محليين، فإن المحل الذي ظهرت فيه الراية يقع بالقرب من محل "مجوهرات السعادة"، وهو ما يعزز فرضية صحة الصورة.
من العلم الرسمي إلى أعلام العقائد والتنظيمات
المحل الظاهر في الصور يبدو مختصاً ببيع الأعلام والرايات، من بينها علم سوريا الرسمي، وعلم المملكة العربية السعودية، وأعلام أخرى دينية الطابع، وهذه الظاهرة تعد جديدة على أسواق العاصمة، إذ لطالما كان بيع الأعلام والرموز السياسية والدينية محصوراً بموافقة أمنية مسبقة، ويقتصر غالباً على العلم الوطني، وفي فترات سابقة خلال عهد النظام السابق، كانت تباع في بعض الأماكن أعلام "حزب الله" اللبناني وصور قادة إيرانيين، لكن ذلك كان يجري تحت حماية سياسية واضحة.
لكن اليوم، يبدو أن هذه القيود بدأت تتفكك، مع تنامي أسواق غير خاضعة لرقابة مركزية مشددة، وانتشار محال تعرض فيها رموز ذات طابع ديني أو سياسي دون رقابة ظاهرة.
الانفتاح ومكافحة الإرهاب معاً
وكان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أطلق تصريحات واضحة بشأن التزام الدولة الجديدة بمحاربة الإرهاب، بالتوازي مع جهود الانفتاح على المجتمع الدولي، خصوصاً عقب اللقاء الذي جمع الرئيس أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض. واعتبر الشيباني أن مكافحة الإرهاب تمثل "شرطاً رئيسيًا لاستعادة الاستقرار واستقطاب الاستثمار الأجنبي"، مشيراً إلى أن الحكومة لن تسمح لأي جماعات متطرفة بإعادة تموضعها تحت عناوين دينية أو سياسية.
قلق من التغلغل الرمزي والفكري
والحال أن ظهور علم "داعش" في سوق شعبي كـ"الحميدية"، وهو من أكثر الأسواق ازدحاماً وزيارة في دمشق، يثير مخاوف من احتمالية تغلغل الفكر الجهادي المتطرف في بعض البيئات الشعبية، خصوصاً في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تمر بها البلاد، والتي قد تضعف المناعة المجتمعية تجاه الخطابات المتطرفة، وهذا يطرح تساؤلات: هل ما حدث مجرد تصرف فردي لبائع لا يميّز بين رمزية الشهادة والراية التي اتخذها داعش شعاراً دامياً؟ أم أننا أمام ظاهرة أوسع، يستغل فيها الدين والرموز الإسلامية لدوافع تجارية، وربما سياسية غير معلنة؟
كما أن غياب اي توضيح رسمي حول هوية الجهة التي صنعت هذه الراية أو استوردتها، يفتح الباب أمام أسئلة إضافية، هل هذه الأعلام تصنع محلياً أم تستورد من الخارج؟ وهل تمر عبر رقابة الجمارك أو وزارة الأوقاف؟ وهل يمكن حقاً الفصل بين "علم التوحيد" كشعار ديني قديم، وبين "علم داعش" كرؤية عنفية جهادية معاصرة؟
وحسب مختصين، لا يمكن تجاهل أثر السياق، فبيع هذه الراية في مكان عام لا يفهم بمعزل عن تاريخ استخدامها، خصوصاً في منطقة عانت من العنف والتطرف لسنوات.
تزامن مع تحركات ميدانية للتنظيم
وتداول الصورة، يأتي في وقت عاد فيه اسم "داعش" إلى الواجهة، بعد تنفيذ التنظيم لهجمات في الجنوب السوري خلال أيار/مايو الماضي، أبرزها تفجير عبوة ناسفة ضد قوات من الفرقة 70 في منطقة تلول الصفا جنوب السويداء، ما أدى إلى مقتل مرافق مدني وإصابة ثلاثة جنود، كما فجّر التنظيم عبوة أخرى ضد فصائل مدعومة من الولايات المتحدة في المنطقة ذاتها، ما أسفر عن مقتل أحد المقاتلين وإصابة ثلاثة آخرين، وتزامنت هذه التحركات مع تقارير أمنية عن نشاط متجدد لخلايا التنظيم في البادية ودير الزور.
ما هو علم التوحيد؟
ويعد علم التوحيد، المعروف بشهادته "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، رمزاً دينياً إسلامياً قديماً، يُنسب استخدامه إلى عهد النبي محمد، وإن اختلفت الألوان والأنماط في سياقات تاريخية متعددة. لكن "تنظيم داعش" استولى على هذا الرمز وخصه بخلفية سوداء وخط معين، ليُصبح لاحقاً مرتبطًا بهوية التنظيم، لا سيما بعد أن جعله جزءاً من كل مواده الإعلامية ومن راياته الميدانية.
هذا الربط أثار إشكالية كبيرة في الدول الغربية، حيث بات ينظر إلى هذه الراية بوصفها رمزاً إرهابياً. ففي ألمانيا، مثلاً، يحظر عرضها بموجب المادة 86a من القانون الجنائي، باعتبارها شعاراً لمنظمة محظورة. وفي بريطانيا وفرنسا، تعدّ راية "داعش" بمثابة تحريض على الإرهاب.
أما في السعودية، فرغم أن علم المملكة يحتوي على الشهادة نفسها، إلا أنه مصمم بلون أخضر واضح ويمنع استخدامه في غير السياقات الرسمية، حفاظاً على قدسيته.
القانون في سوريا
حتى الآن، لا يوجد في القانون السوري الجديد نص صريح يجرم بيع أو عرض راية تحمل الشهادة الإسلامية، حتى لو كانت مشابهة لعلم تنظيم "داعش". لكن قانون مكافحة الإرهاب (رقم 19 لعام 2012) يجرم الترويج لتنظيمات إرهابية أو الانتماء إليها، ما يجعل بيع هذه الرايات في بعض الحالات عرضة للتأويل القانوني، تبعاً للسياق والنية.
وفي ظل غياب رقابة واضحة، ووجود أسواق تجارية غير منضبطة، قد يمر مثل هذا الفعل من دون مساءلة، ما يطرح أسئلة عن مدى جهوزية الدولة الجديدة للتعامل مع هذه الرموز التي تحمل في ظاهرها ديناً، وفي باطنها أيديولوجيا دموية.
هل يمكن الفصل بين الراية والتنظيم؟
السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الجدل: هل يمكن فعلاً فصل الشهادة الإسلامية عن السياق العنيف الذي ارتبط بها من خلال استخدام داعش لها؟ الجواب ليس بسيطاً، بل يتطلب وعياً جماعياً، ورقابة ثقافية وأمنية وقانونية دقيقة، وتوازن بين احترام الرموز الدينية، ومنع تحولها إلى أدوات دعائية خطابات العنف.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها