الجمعة 2025/06/06

آخر تحديث: 00:26 (بيروت)

حجّ الديار المقدّسة: السبيل الشاقّ إلى ولادة جديدة

الجمعة 2025/06/06
حجّ الديار المقدّسة: السبيل الشاقّ إلى ولادة جديدة
"وصول المَحمَل إلى واحة في طريقه إلى مكة" للرسام الرحالة النمسوي جورج إيمانويل أوبيز، أوائل القرن الـ19
increase حجم الخط decrease
يعتقد المتديّنون، باختلاف طوائفهم ومذاهبهم حول العالم، أنّ الفكرة التي توازي الحجّ أهمّية، هي الطريق إليه. فقد اشتركت الأديان المختلفة في أمر بديهيّ لا يتعلّق بالفريضة نفسها، وهو أن يكون السبيل إليها شاقّاً. وهو كان كذلك بالفعل عبر التاريخ، بل إنّه كان محفوفاً بالمخاطر الكبيرة من السلب والخطف وصولاً إلى الموت.

كانت قوافل الحجّ تلاقي الأهوال في الطريق، واعتاشت على نهبها اقتصاداتُ تجمّعات بشرية عديدة. ولمواجهة هذه التجمّعات، أبرمت اتفاقات ومعاهدات دوليّة لتأمين حماية القوافل، وفُرضت ضرائب وبُنيت سكك حديد وشيّدت مدن على الطريق. السبيل إلى الله أثّر في اقتصادات الدول المحيطة وعمرانها واستراتيجياتها.

الذاهبون إلى الحجّ مشياً وعلى الدواب كانوا ينطلقون من فرضيّة أنّهم قد لا يعودون، يودّعون أهلهم ويوفون الأمانات ويستسمحون الآخرين ويكتبون وصاياهم. حين تأمّنت الطريق لاحقاً وعُبِّدت ونُظّمت، بقيت أيّام السفر البرّي الطويلة مرهقة وتستغرق أيّاماً.

بعدما بات الحجّاج يسافرون بالطائرة ويوفّرون عناء الطريق، بقيت معاناتهم مقتصرة على طقوس الحجّ في ظروف مناخية قاسية، لكن حتّى هذه المعاناة تبدّلت حين صارت غالبيّة المناطق التي تؤدَّى فيها المناسك، مكيّفة ومجهّزة بكلّ التجهيزات اللازمة، وأحياناً الفائضة عن الحاجة.

بقيت الحوادث تودي بحياة الحجّاج، سواء تدافعاً أو حريقاً أو حَرّاً، تحديداً يوم عَرَفة، حين يقف ملايين الحجّاج في المكان الذي ألقى فيه النبي محمد خطبة الوداع قبل وفاته، كذلك في الطواف المزدحم حول الكعبة.

يذكر القرآن أنّ على المسلم حجّ بيت الله بشرط أن يستطيع إليه سبيلاً. والسبيل المقصود كان الصحّيّ والمادّيّ. أن تكون صحّة الحاجّ مناسبةً لتحمّل مشاقّ السفر ومتاعب المناسك، وأن يملك المال الكافي لهذه الفريضة. لكنّ الراغبين في الحجّ تعمّدوا التملّص من الالتزام بهذه الأحكام، فكانوا يقترضون المال أو يتوسّلونه من المقتدرين، حتى أنّني عرفت رجلاً حصل على مبلغ مالي من قريبه المقتدر ليؤسّس مصلحة ما يعتاش منها، فقرّر أن يحجّ بالمال ويترك أمر الرزق على الله.

في نهاية ثمانينات القرن العشرين، ذهبت جدّتي لتحجّ. لم تصلنا أخبار عنها إلا نادراً، وذلك حين كان يتمكّن أحد الحجّاج معها من الاتصال الهاتفي "الأرضي" بأحد معارفه. استقبلناها يوم عودتها بالطبل والدربكة مرددين "رجعو الحجّاج من مكّة، دقّولن عالدربكّة". كنّا أطفالاً متشوّقين للفرح وللهدايا ولأخبار تلك البلاد. وقد انتظرنا بشوق عودتها لنحصل على الهدايا ولتحكي لنا ما رأته وعاشته. اليوم يمكن لأهل الحاج أن يرافقوه لحظة بلحظة عبر الهواتف النقّالة والأقمار الاصطناعيّة، واستطاع أولادي أن يروا جدّتهم يوميّاً عبر الهاتف ويسمعوا رسائلها وأخبار رحلتها. أمّا الهدايا فلن يكونوا متشوّقين لها أيضاً، لأنّها باتت تشتَرى من متاجر قريبة وتصل إلى منزل الحاج قبل عودته من السفر.

أجمل هدية حصلت عليها من الحجّاج الذين مرّوا في حياتي كانت تلك الكاميرا العجيبة التي تشبه صندوق الفرجة القديم، نقرّب عيناً من عدستها، وما إن نضغط على زرّها حتّى تعرض لنا صورة نيجاتيف وتضيئها لنراها بوضوح، تليها بقية الصور وجميعها من الديار المقدّسة، حتّى أنّي كنت أظنّ إن ضغطت عيني أكثر سأنتقل إلى تلك الديار، لذا كانت تلك اللعبة تطبع على عيوننا علامة واضحة تعني قبل كلّ شيء أننا من المحظوظين الذين يعرفون أحد الحجاج المعدودين في البلدة.

تليها في الهدايا، المسبحة التي تضيء خرزاتها في الظلمة، وكنّا ننام ونحن نحتضنها بين كفوفنا. ربما كانت هناك أمور مدهشة تأتي من بلاد الحجّ ولم أعرفها، لكنّي لا أرى اليوم أنّه يمكن لهديّة أن تفاجئ أيّ طفل ينتمي للربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين. وبينما فقَد الحجّاج ثواب شقاء السبيل، فقَد الأطفال أيضاً دهشة الهدايا وفرحة موسيقى الزفّة لأنّ تقليد الزفّة انحسر في مراسم التأهيل بعودة الحجيج، في بلدتنا على الأقلّ، وللظروف الماليّة دور بالتأكيد كما للمزاج العامّ المائل للاقتصاد في الفرح بعد سلسلة متتالية من الانكسارات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة وحتّى العقائديّة.

ورغم كلّ الفتاوى والتمنّيات ألّا يجلب المهنّئون هدايا للحاج، إلّا أنّهم ما زالوا يفعلون، ولا نعرف السبب في تقديم هدية للحاج، سوى مكافأته على نجاحه في أداء الفريضة ونجاته من الموت دهساً أو بضربة شمس. أمّا الهدايا التي تقدّم للحجّاج العائدين باللقب فتتراوح بين كيلوهات السكّر والأرز وفناجين الشاي والقهوة وزهريّات وملابس ومناشف... بدوره يقدّم الحاج لزوّاره والمهنئين الهدايا التي ما عادت تأتي من الديار المقدّسة، بل تُشرى من الأسواق المحلّيّة لأعفاء الحاجّ من عناء التسوّق وتفرّغه للعبادة كذلك لتوفير عناء توضيبها وكلفة شحنها في الطائرة.

يؤمن العائدون من الحجّ بأنهم ولدوا من جديد، عقائدياً "تُغفر لهم ذنوبهم السابقة"، ولوجستياً لأنّهم عادوا سالمين من رحلة هي في الوعي الجمعي للمسلمين محفوفة بالموت. هذه الأمور بقيت صامدة عبر الزمن ومع تحوّلاته العديدة. فكرة الولادة من جديد والحصول على فرصة للتطهّر والعودة إلى عمر البراءة، تكمن من دون شكّ وراء الشغف بأداء الحجّ. إنّه ليس سفراً جغرافياً فقط، بل سفراً عكسياً بالزمان، بالعمر، من الشيخوخة أو الكهولة إلى الطفولة. 



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها