شهدت العاصمة السورية دمشق صباح اليوم مشهداً استثنائياً في رمزيته، هو الأول من نوعه في تاريخ البلاد الحديث، حيث احتشد آلاف السوريين أمام ضريح الجندي المجهول على جبل قاسيون لأداء صلاة عيد الأضحى الأول منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024.
وللمرة الأولى منذ عقود، بدا ضريح الجندي المجهول، الواقع في منطقة المهاجرين قرب القصر الرئاسي، مفتوحاً أمام المواطنين من دون قيود أمنية، بعدما ظل لعقود محظوراً على السوريين، باعتباره جزءاً من منطقة أمنية مغلقة كانت تخضع لسيطرة مشددة من أجهزة النظام.
المشهد الذي وصفه ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي بأنه "حج وطني إلى مقام الشهداء"، تميز بكثافة بشرية لافتة، حيث غصّت الشوارع المؤدية إلى الضريح بالسيارات والمصلين، وسط تكبيرات جماعية علت من قمة الجبل المطلّة على العاصمة.
وانتشرت الصور والمقاطع المصوّرة بكثافة، لتوثّق الحدث الذي اعتبر بمثابة إعلان رمزي عن عودة الفضاء العام إلى السوريين، بعد عقود من الإقصاء والتوظيف السياسي للمعالم الوطنية.
وكانت وزارة الأوقاف ومديرية الأوقاف في دمشق قد أصدرتا تعميماً حمل الرقم 30، لتوجيه القائمين على الشعائر الدينية في مساجد المدينة إلى دعوة المصلين لأداء صلاة العيد في ساحة الجندي المجهول بمنطقة المهاجرين، أو في ساحة الزاهرة الجديدة، مقابل جامع سفيان الثوري قرب دوار البطيخة.
الحدث شهد أيضاً حضوراً رسمياً بارزاً، تمثل بمشاركة محافظ دمشق، ماهر مروان، في الصلاة، في خطوة تعكس تغيّراً في علاقة الدولة مع الأماكن الرمزية التي كانت في السابق حكراً على السلطة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية.
ويرى مراقبون أن أداء صلاة العيد في هذا الموقع لا يحمل فقط بُعداً دينياً، بل يكتسب طابعاً سياسياً وشعبياً عميقاً، باعتباره استرداداً لمكان تم احتكاره طويلاً من قبل النظام، وتحويله من معلم عام إلى رمز للسيطرة والاحتكار.
ضريح الجندي المجهول
شيّد ضريح الجندي المجهول على قمة جبل قاسيون في النصف الثاني من السبعينيات، خلال عهد حافظ الأسد، بهدف تخليد ذكرى الجنود المجهولين الذين سقطوا في الحروب، لا سيما أولئك الذين قُتلوا في حرب تشرين 1973، م دون التمكن من التعرف على هوياتهم. وقد بُني في موقع استراتيجي يشرف على كامل مدينة دمشق، ويقع على بُعد مئات الأمتار من القصر الرئاسي في حي المهاجرين، ما أضفى عليه لاحقاً طابعاً أمنياً بالغ الحساسية.
ورغم رمزيته الوطنية، ظلّ الضريح مغلقاً أمام عامة الناس لعقود، مقتصراً على المناسبات الرسمية والعسكرية التي تشهد زيارات بروتوكولية من المسؤولين وكبار الضباط، من دون أن يتاح للمدنيين زيارته بحرية. ومع اندلاع الثورة السورية في 2011، شددت سلطات النظام القيود الأمنية عليه، وأُغلقت الطرق المؤدية إليه، خصوصاً الطريق الذي يربط منطقة المهاجرين بأعلى قاسيون، ويمر بمحاذاة مقار الحرس الجمهوري والقصر الرئاسي.
موقع عسكري محصن
جبل قاسيون ذاته، الذي يحمل طابعاً جغرافياً وروحياً خاصاً لدى الدمشقيين، تحول خلال سنوات الحرب إلى موقع عسكري محصن، يحوي وحدات مدفعية ورادارات، وأُعلن منطقة عسكرية مغلقة، ما جعل الوصول إليه شبه مستحيل، حتى للأهالي القاطنين في محيطه. وكان أي اقتراب من ساحة الضريح أو محاولة التقاط صورة على سفح الجبل سبباً كافياً للاعتقال أو الاستجواب، ما جعل من هذا المعلم الوطني رمزاً مزدوجاً: للبطولة والتضحية من جهة، وللهيمنة الأمنية من جهة أخرى.
اليوم، وبعد زوال النظام، يعود السوريون إلى هذا الموقع كفضاء عام استعيد من قبضة السلطة، ويُعاد تأويل رمزيته من جديد، بوصفه مقاماً وطنياً جامعاً للشهداء من مختلف أطياف الشعب السوري، وليس منصة حصرية للاستعراض الرسمي.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها