المفارقة الأبرز في هذا الجدل كانت في تعدد الأصوات داخل البيئة المؤيدة لـ"حزب الله" نفسه، حيث انقسمت الآراء بشكل واضح. فبعض الآراء الصادرة من داخل جمهور الحزب وصف الاعتداء بأنه "كفٌّ وطني" و"صفعة دفاعية"، وعدّته ردّاً شعبياً على محاولة دخول دورية اليونيفيل إلى أملاك خاصة من دون تنسيق مع الجيش اللبناني، وهو ما فُسِّر على أنه تعدٍّ على الأرض والسيادة، وعُدّ هذا الفعل حقاً مشروعاً ومشروع مقاومة محلية في مواجهة تصرفات استفزازية متكررة.
في المقابل، برزت آراء أخرى من البيئة نفسها عبّرت بوضوح عن رفض هذا التعدي واعتبرته مداناً ومسيئاً لصورة الجنوب والمقاومة. ورأت هذه الفئة أنّ هذا النوع من الأفعال "يفتح أبواباً للتأزم السياسي والأمني"، و"يسيء إلى العلاقة مع المجتمع الدولي"، و"يقوّض شرعية الموقف الوطني اللبناني"، خصوصاً إذا لم يصدر عن الحزب نفسه أي موقف رسمي يؤطّر ما جرى.
ولا تبدو الحادثة استثناءً، فقد دأب عدد من الصحافيين والباحثين والإعلاميين المحسوبين على الحزب، بل وحتى بعض العاملين في مؤسساته الإعلامية، على إطلاق تصريحات حيال مواقف أو حوادث معيّنة، ليتبيّن لاحقاً، عند صدور البيان الرسمي للحزب، أن موقفه يأتي على النقيض تماماً مما طُرح. ويوصف هؤلاء من قِبل شريحة واسعة داخل بيئة حزب الله نفسها، وهي الفئة التي تلتزم بعدم إطلاق مواقف قبل البيان الرسمي، بأنهم أصوات شعبوية تفتقر إلى الخلفية والوعي السياسي الكافي لتقدير الموقف، مما يعمّق الفجوة بين الخطاب التعبوي والخطاب السياسي الرسمي.
وكان من المستغرَب أن بعض هذه الأصوات نفسها، وهي تعلن الدفاع عن "الحق والسيادة الوطنيَّيْن"، لجأت إلى مهاجمة الجيش اللبناني واتّهامه بالتقصير أو "التواطؤ" في حماية الجنوب. وردّ عليهم آخرون متسائلين: كيف يكون منطقياً أن نرفع راية حماية السيادة فيما نُضعِف ونهاجم المؤسسة الوطنية التي تمثّل العمود الفقري للدفاع عن تلك السيادة؟
نقاش قانوني
وبين هذين الرأيين المتقابلين من داخل الجمهور السياسي الواحد، انتقل النقاش إلى مستوى قانوني؛ إذ طرح البعض أنّ ما حصل لم يكن سبباً بحد ذاته، بل نتيجةً لسلوك متراكم من بعض وحدات قوات اليونيفيل التي تدخل إلى مناطق مدنية وممتلكات خاصة من دون مرافقة الجيش اللبناني، في مخالفة صريحة للاتفاقات التي تنظّم وجود هذه القوات، لا سيّما ما جرى التفاهم عليه عند تجديد تفويضها.
في المقابل، انتشر رأي قانوني مضاد قال إن قوات اليونيفيل، لا سيّما بعد الحرب الأخيرة، تملك حق الحركة بحرية ضمن منطقة عملياتها، وإن التنسيق مع الجيش اللبناني ليس شرطاً قانونياً ملزماً في كل حالة؛ بل هو مسألة إجرائية يُستحسن العمل بها لتفادي التوترات، لكنها غير ملزِمة أمميّاً.
وقد دفع هذا التجاذب القانوني إلى طرح ثالث يرى أنّ الجدل حول قانونية تحرّكات اليونيفيل لا يلغي حقيقة أنه لا شيء يبرر لمدني أو لأي فرد أن يعتدي جسديّاً على جندي أممي، حتى لو وُجد خرق أو تجاوز. فالمسار البديل، بحسب هذا الطرح، هو الاعتراض القانوني عبر الدولة اللبنانية أو اللجنة المشتركة، لا اللجوء إلى العنف الفردي، مع التأكيد على أنّ الضرب أو الإيذاء يبقى مرفوضاً في كل الأحوال.
سردية أمنية
وذهب بعض مناصري الحزب الى تعميم سردية أمنية، تزعم أن هذه القوة تحديداً، أي القوة الفنلندية في الاحتياط، سبق أن داهمت مخازن أسلحة للمقاومة خلال الحرب، وأنها تؤدي مهمات تتعدى مقدراتها. فُسّر هذا الرأي على أن ما حصل ليس فعلاً فرديّاً بل "عمل منظَّم"، وربطه بعض المراقبين بالحزب نفسه، ولو من دون إعلان رسمي.
لكن هذه السردية لا تبدو مقنعة، ذلك أنه حتى لو ثبتت تجاوزات من بعض عناصر اليونيفيل، فالرد لا يكون بتعميم العقوبة أو الاعتداء الجسدي على عناصر من القوة نفسها أو من قوة أخرى. فتلك "أعمال فردية يجب التعامل معها عبر المسار القانوني المناسب من خلال الدولة اللبنانية"، من دون الانزلاق إلى منطق أخذ الحق باليد.
بين تلك الآراء، يبقى النقاش حول الاعتداء على دورية اليونيفيل مفتوحاً، ليس على مستوى الفئات اللبنانية المختلفة أو حتى الحلفاء والخصوم فحسب، بل داخل جمهور حزب الله نفسه، مما يعكس اتساعاً للجدل حول حدود هذه القوات ومسؤولياتها وكيفية التعامل معها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها