أكره المكالمات الهاتفية. هي، بالنسبة إلي، التجسيد الماديّ للشؤم. فأنا كلّما رنّ الهاتف، وذلك لا يحدث الا نادراً، يكاد قلبي يقفز من مكانه. أتوقّع الأسوأ دائماً. والأسوأ قد لا يكون خبراً سيئاً بالضرورة، بل مجرّد تطفّل فجّ لصوتٍ خارجي يقتحم عزلتي ويملأها نشازاً.
حين وُلدت في التسعينات لم يصل الخبر الى والدي الذي تفصلنا عنه بحار، الا بعد يومين، هي المدّة التي استغرقها القيام باتصال هاتفي بين البلدين. في السنوات التي تلت، أي "الألفينيات"، أصبح التواصل الهاتفي أسهل، ومن طقوس الحياة اليومية. كل يوم، في الموعد نفسه، كان والدي يتصل، وكلّ يوم كنا نتحدث معه أحاديث يملأها الصمت. تلك المكالمات الهاتفية كانت أكثر ما يذكّرني بغيابه، وهي اليوم تذكّرني بالأصدقاء الذين تبعثروا في بقاع الأرض. وهذا مصير كل صداقة في أرضنا الخصبة بالهجرة.
لقد قضيتُ سنوات في الغربة، أتملّص خلالها من دعوات أصدقائي المنتشرين في الوطن وخارجه لاجراء "فيديو كول" نقرّب فيه المسافات بالصوت والصورة. كنت أختلق الحجج والأعذار، ولربّما ظنّوا أني مشغولة أو لا أشتاق لهم. لكني، في الحقيقة، كنت أفضّل الوحدة على رؤية أصدقائي بصورة ناقصة، مسطّحة، ثنائية الأبعاد. لم تكن تلك الصورة مقنِعة بالنسبة إلي. فهي لا تقرّب المسافة، بل تذكرنا ببعدها وبتلاشي الآخر الذي نحبّ، من حياتنا، كتلاشي النجمة التي ما زلنا نرى بريقها لكنها انطفأت منذ زمن. أفضّل أن أجلس في الظلام..
أستعيض عن مكالمات الفيديو بالرسائل القصيرة. أرسل القلوب والـ"هاها" والوجوه الغاضبة بوجهٍ متلبّد، فارغ من أي تعبير أو شعور. أعلّق على نصوص أصدقائي بالايموجي الراقص وأنا أجلس، لا بل أغرق، في الأريكة. أُرفق رسائل العمل بعلامتَي تعجب بدلاً من واحدة للتعبير عن امتناني (الزائف) لأحد الزملاء أو عن حماستي (المزيفة أيضاً) حيال إحدى المشاريع التي تطرحها مديرتي (Great idea!!). وذلك كله بالوجه الجامد نفسه، والنظرة الغائبة التي لا توحي بسعادة، ولا غضب، ولا بأي طاقةٍ أو حتى رغبة في الرقص. كما أنها بالتأكيد لا تشير الى امتنان أو حماسة في ما يخصّ العمل.
هكذا تعلمتُ، أنا وكثر غيري من أبناء الانترنت، فنّ الفصل البارد بين العواطف، أو بالأحرى غيابها، وبين التعبير. تبلّدت مشاعرنا تحت طبقاتٍ كثيفة من المؤثرات، فتعلّمنا كيف نغلّف خدرنا بالتفاعل الأدائي. بنينا جداراً يقينا من العالم، وآخر من أنفسنا، تلك التي تشعر وتتفاعل وتتأثر.
صغاراً، ارتمينا في أحضان الانترنت، فأوقعنا العنكبوت في شباك حبّه التي ما انفكّت تضيق حول أعناقنا. اليوم نحاول النجاة، فننفض عنّا الشباك، أو بشكلٍ أدقّ، التواصل. كلّ ذلك ينهار... برنّة هاتف واحدة.
يسمّوننا الجيل الصامت، وهي تسمية دقيقة، فأنا لا أذكر آخر مرّة كان فيها جوالي غير "صامت".. من أيام المدرسة أظنّ. لكني أضيف على هذا اللقب لقباً آخر: "جيل الـpoker face"، الذي استعاض عن تحريك عضلات وجهه، بإيموجيز جاهزة في شاشة جواله. يا لهذا الكسل!
أفكّر في الأجيال التي لحقتنا. لا بدّ أنها تعاني الأزمة نفسها؟ ربما، لكني لا أعتقد أن التجربتين متطابقتان. فجيل التيك توك، اختار- او اختير له- الفيديو كوسيط أساسي للتعبير بدلاً من النص والصورة كما هو حال جيل فايسبوك. والفيديو يقتضي على الأقلّ تحريك عضلات الوجه، لا سيّما للتعبير عن الاعجاب والدهشة كوسائل للجذب والتسويق.
أمّا نحن، فنحن الجيل الذي فقَد الدهشة. وأي دهشةٍ تأتي بعد الانتقال الصاروخي من عالم الكابلات الملموسة الى عالمٍ رقميّ؟ نحن الجيل الذي تربّى على "The Matrix"، يتبعه "Black Mirror". نعم، لقد أدهشتنا الحلقة الأولى، لكن سرعان ما لحق الواقع بالخيال، بل تجاوزه أحياناً. نحن أيضاً جيل "الساتلايت" وتلفزيون الواقع الذي وصلته أصداء الحلم الأميركي وهو يشارف على نهايته. هذا التحوّل العنيف حصل في ذروة المراهقة، أكثر الفترات تقلبًا وارتباكًا ودهشة وإحباطًا... يا له من توقيت.
وبمناسبة الحديث عن تلفزيون الواقع.. لقد كبرنا ونحن نشاهد ترامب يطرد موظفين من عملهم في برنامج The Apprentice. نحن نعرف ترامب حق معرفة، لذا تخيلوا أن حتى ترامب لا يدهشنا!!
إنما يدهشني اتصال صديقتي الفجائي ومن دون رسالة "تحذيرية" مسبقة. أعتقد بداية أن هناك أمراً طارئاً، ثمّ يتبيّن أنها مجرد دردشة، لا أعرف لها بدايةً أو نهاية. أسألها ممازحةً ان كانت على دراية بالـmillennial code؟ (أي قانون جيل الألفية). "الكود؟" تردّ مستغربةً. فأشرح أنه اتفاق غير معلن، بين أبناء الجيل الواحد، باعتماد الرسائل بدلاً من المكالمات. فالتواصل في الوقت "الحقيقي" (real time) أمر يثير القلق عند الكثير منّا. يمكننا التواصل، لكن كلّاً منا يتواصل في وقته، تماماً كما كان الأمر أيام الحمام الزاجل.
ليست أزمة انطوائية، أُطمئن نفسي. أو لعلها أزمة انطوائية جماعية، تخصّ جيلًا بأكمله. فالإحصاءات تشير إلى أن أكثر من 70% من الشباب يتجنبون المكالمات الهاتفية. أما المفاجأة؟ فربعهم لم يُجرِ في حياته اتصالًا هاتفيًا واحدًا (حسب دراسة بريطانية). بل إن الأمر تطوّر إلى ما هو أبعد: هناك اليوم اضطراب نفسي جديد يُعرف باسم "فوبيا الهاتف".
فوبيا التلفون هي واحدة من مزايا جيلنا المعروف أيضاً بتمرّسه في مجالات الرهاب الاجتماعي و"الأنكزايتي"، والـ"اوفر ثينكينغ"، وغيرها من المصطلحات التي رافقت "ازدهار" قطاع الصحة النفسية. لقد جرّبنا كلّ شيء بحثاً عن السلام الداخلي الذي يحدّثنا عنه الأكبر سنّاً، أولئك الذين عرفوا الاكتفاء الذاتي قبل الانفتاح على العولمة واحتمالاتها اللامتناهية. لقد جرّبنا كل شيء: اليوغا والتأمّل والتنمية الذاتية ومضادات الاكتئاب والحيل النفسية وخداع الذات... وكلّ ذلك بشكلٍ علني وموثق.
لكن إذا كان كل بحث عما يسمّى سلاماً داخلياً هو محاولة للعودة الى الطفولة، كما يزعم علماء النفس، فنحن نذكر طفولة خالية من سطوة وسائل التواصل. ذلك الزمن الذي انتفت فيه القدرة على الوصول الدائم الى الآخر، وهو إلينا. لذلك من الطبيعي جداً أن نهرب، كلّما أتيحت لنا الفرصة، الى ذلك العالم.. الذي خرجنا منه آخرَ من خرَج.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها