لكنّ هذا التبسيط يُسقط من الحسابات طبقات أعمق من المعنى: هل كان الجنوبيون أصلاً أصحاب قرار في بقاء القوات أو رحيلها؟ هل علاقة المجتمع المحلي باليونيفيل علاقة ثابتة يمكن اختزالها في معادلة الأبيض والأسود؟ والأهم: ماذا يعني هذا التصعيد الأخير في العلاقة بين القوات الدولية وسكّان الجنوب؟
مهمة "اليونيفيل"
منذ تأسيسها العام 1978، ثم توسيع مهامها عقب حرب تموز 2006، لم تكن قوات اليونيفيل مجرّد "قوة سلام"، بل كانت على الدوام طرفاً في لعبة توازن دقيقة على خط الجنوب. لعبت أدوار الوساطة، الضبط، وأحيناً أدوار الرصد. وهذا التوتر في الأدوار انعكس حتماً على علاقة الجنوبيين بها.
فالعلاقة لم تكن يوماً علاقة قبول مطلق أو رفض مطلق، بل علاقة مشروطة بالثقة: حين كانت القوات الدولية تُرى كضامن حقيقي لوقف النار، كان القبول أوسع. وحين بات يُنظر إليها كقوة "تشاهد" الانتهاكات الإسرائيلية بصمت، أو تُراكم الأرشيف لصالح من سيحاسب المقاومة لاحقاً، توتّرت العلاقة.
خلال الأشهر الأخيرة، ومع ارتفاع وتيرة التصعيد العسكري في جنوب لبنان، تكرّرت حوادث اعتراض دوريات اليونيفيل، ومنعها من الوصول إلى بعض المناطق أو من ممارسة أنشطة معينة، خصوصاً في ما يتعلّق بعمليات التصوير أو التحرك خارج نطاق التنسيق مع الجيش اللبناني. في بعض الحالات، تطوّرت هذه الاحتكاكات إلى مواجهات مباشرة، وإن بقيت محدودة وغير منظّمة ضمن إطار أوسع.
علاقة الجنوبيّين باليونيفيل
هذا التصعيد ليس حدثاً معزولاً. فالعلاقة بين القوات الدولية وسكان الجنوب لطالما تأثّرت بسياق أمني وسياسي متغيّر. في المراحل التي أعقبت تعزيز مهمة اليونيفيل بعد حرب 2006، شهدت مناطق الجنوب تعاوناً متفاوتاً مع القوات الدولية، بما في ذلك في مجالات الدعم المدني والمبادرات المحلية. غير أنّ هذه العلاقة دخلت في طور جديد خلال السنوات الأخيرة، مع تصاعد التوترات الأمنية من جهة، وبروز توسيع هامش حركة اليونيفيل دون التنسيق مع الجيش اللبناني من جهة أخرى، وهو الأمر الذي أثار تحفظات سياسية ورسمية في لبنان، وانعكس بدوره على طبيعة العلاقة الميدانية.
وبدا أنّ تصاعد الاعتراضات لم يكن دائماً ثمرة موقف شعبي موحّد تجاه وجود اليونيفيل بحدّ ذاته، بل جاءت هذه الحوادث في الغالب كردّ فعل على سلوك القوات في الميدان، وعلى التحوّلات في أدوارها المفترضة، وبالطّبع ذلك لا يعني تبرير بعض المواقف العنيفة تجاههم. كذلك، لم تخرج حتى الآن مواقف واضحة أو بيانات رسمية من الفعاليات المحلية أو المجالس البلدية الجنوبية أو الثنائي "حركة أمل" و"حزب الله" تدعو صراحة إلى انسحاب اليونيفيل، ما يشير إلى أنّ النقاش حول بقاء القوات أو رحيلها لا يُختزل في رغبة محلية مباشرة.
في هذا الإطار، جاء تصريح رئيس مجلس النواب نبيه بري الجمعة ليعكس هذا التعقيد، إذ أكد دعمه لوجود القوات "ظالمة أم مظلومة"، مع رفضه للاحتكاكات الميدانية الأخيرة، مشدداً على ضرورة معالجة أي سوء تفاهم "بهدوء وحكمة"، مضيفاً: "نحن نعرف انّ العدو الإسرائيلي لا يريد بقاءها في الجنوب وهذا يكفي حتى نكون معها".
مسؤولية الجنوبيين
في المقابل، لا يمكن إغفال أنّ جزءاً من الخطاب الإعلامي الذي يُحمّل الجنوبيين مسؤولية تفكيك مهمة اليونيفيل يُوظَّف في هذه اللحظة ضمن سياق سياسي أوسع. فمع اقتراب موعد تصويت مجلس الأمن على تجديد التفويض، تُطرح هذه السردية في الخطاب العام كوسيلة لتبرير تحوّل قد يُتّخذ على مستوى القرار الدولي، أكثر منه انعكاساً لإرادة ميدانية صافية.
في المحصّلة، المشهد الراهن يُظهر بوضوح أنّ الاحتكاكات بين السكان والقوات الدولية هي مؤشر على أزمة ثقة متنامية، لكنها ليست في حدّ ذاتها حركة منظمة لإخراج اليونيفيل من الجنوب. كما أنّ العلاقة بين الطرفين مرّت تاريخياً بمحطات تعاون وتوتّر متتالية، بما يعكس تعقيد الدور الذي تلعبه هذه القوات في بيئة أمنية وسياسية دائمة التغير.
تجديد تفويض اليونيفيل
في هذا التوقيت تحديداً، ثمة مبرّرات عديدة تستند إلى السياق الدولي–الإقليمي. أولاً، قرار مجلس الأمن المرتقب في آب/أغسطس المقبل حول تجديد تفويض اليونيفيل، يصاحبه ضغط أميركي–إسرائيلي يمكن أنّ يُستخدم فيه الفيتو ما دام بقاؤها لا يخدم الأجندة الإقليمية.
ثانياً، لا بد من قراءة تصاعد الاعتراضات الشعبية مؤخّراً باعتباره مؤشراً محلياً وواقعياً على أزمة ثقة تزامنت مع تصعيد خطير على الحدود، وتجديد التساؤل حول شرعية عمل القوات الدولية في ظل غياب دور فعلي داخلية لموازنة الانتهاكات. لكن ما يجري اليوم ليس الأول؛ المشهد يعيدنا إلى تجربة لبنان في 1982 إثر إنشاء قوة متعددة الجنسيات (MNF)، قوامها قوات أميركية وفرنسية وإيطالية وبريطانية، نشطت في بيروت وترافقت مع انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف تأمين سيطرة الحكومة اللبنانية وتثبيت وقف إطلاق النار، قبل أن تتعرض لهجمات دفعتها للمغادرة في شباط 1984.
أما في صيف 2024، خلال التصعيد العسكري الأخير على لبنان، فقد طُرحت ونُشرت تناولات مشابهة: صور لجنود من الأمم المتحدة يتعرضون للمنع أو الاعتراض في الجنوب، ومقالات ومقاطع فيديو تحدّثت عن "فشل بيئي" و"رفض شعبي لوجود دولي"، لكنها ظلت محدودة ولم تتحول إلى حملة وطنية أو تعبئة سياسية جدية. لكن تلك النماذج الإعلامية أعادت تنشيط الذاكرة السياسية، وربطت بين "مشهد 1983" و"الحالة الراهنة".
وفي هذا السياق، تُتداول أيضاً قراءات ترى في التسريبات الإسرائيلية الأخيرة عن توافق أميركي–إسرائيلي على إنهاء مهمة اليونيفيل، وسيلة ضغط إضافية على بيروت. فالهدف، وفق هذه المقاربات، ليس بالضرورة إخراج القوات الدولية بالكامل، بل دفع الأطراف اللبنانية إلى القبول بتعديل شروط تفويضها. ويُطرح في هذا الإطار توسيع صلاحيات اليونيفيل لتعمل وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مع توسيع نطاق تحرّكها شمال الليطاني وحتى الحدود مع سوريا، وهو مطلب إسرائيلي قديم تعذّر تمريره في أعقاب حرب 2006.
أدوات تفاوض وضغط
غير أنّ هذه الرؤية، وإن كانت متداولة، تظل جزءاً من لعبة معقّدة يجري فيها استخدام تسريبات إعلامية متعمدة كأدوات تفاوض وضغط، أكثر منها انعكاساً حتمياً لما سيؤول إليه القرار الدولي النهائي حول مصير اليونيفيل. وربما يُمكن أيضاً قراءة جانب من هذه التسريبات، في الإعلام والشبكات الاجتماعية، كجزء من محاولة ضغط إسرائيلية مدروسة، تهدف إلى دفع الأطراف المعنيّة إلى القبول بصياغة جديدة لدور اليونيفيل تتماشى مع الأهداف الإسرائيلية، سواء عبر تعديل التفويض أو توسيع نطاق الحركة والصلاحيات. غير أنّ هذه القراءة تبقى في إطار التحليل، في ظل غياب مؤشرات رسمية واضحة حتى الآن حول المسار النهائي لهذه الترتيبات.
لكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ المسألة لا تختزل ببساطة في سؤال "مَن مع" و"مَن ضد"، أو في تقييم ما إذا كان الجنوبيون "تصرفوا بشكل صحيح أو خاطئ". القرارات المتعلقة بمستقبل وجود اليونيفيل تتجاوز إرادة المجتمعات المحلية، وغالباً ما تُصاغ في غرف القرار الدولية وفق حسابات سياسية وأمنية أوسع. غير أنّ أي تحوّل في وضع القوات الدولية سيترك حُكماً آثاراً ملموسة في الجنوب، ليس فقط في الشقّ الأمني، بل كذلك في الشقّ التنموي والاجتماعي.
لطالما لعبت اليونيفيل دوراً مهماً في تنفيذ مشاريع إنمائية محلية، ودعمت بنى تحتية وخدمات اجتماعية في عدد من القرى. وفي هذا الإطار، فإنّ مقارنة المشهد الحالي بتجربة القوات متعددة الجنسيات في ثمانينيات القرن الماضي، تذكّر بأنّ ديناميات الانسحاب، إذا انطلقت، قد تتجاوز بكثير سؤال "الشرعية الشعبية"، لتفتح أمام الجنوب معادلة جديدة محمّلة بالمخاطر والفراغات المحتملة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها