ياتي الخذلان مضاعفاً بعد نشوة النصر، والجرح إذا ما نزف أكثر من مرة يؤلم أضعافاً. يمرّ بخاطري كيف أن جرح طفلي من زجاجٍ مكسور ما زالت ندبته تثير القشعريرة. كلّما نظرت إليه تذكرت أنه خِيط ثلاث مرات، كلما عدنا به إلى المنزل، انتبهنا أن النزيف ما زال يغدر بنا فنسارع إلى عيادة الطبيب. ثلاث مرات تعرّض فخذ صغيري للبنج وتعرّض هو للخوف وألم الخياطة. إلى اليوم، ما زال لا يطيق كرسي الطبيب الجلدي الأسود، فهو مصدر رعب لن يغادر طفولته.
نكء الجراح
تقاطعت الأحداث الأخيرة مع قراءتي"عتبة الألم" لحسن سامي يوسف، الذي وصف شعوره بالخوف وهو يستمع لقذائف تسقط في داريا من شباك منزله في صحنايا أثناء الثورة السورية. هو تماماً شعوري، وأنا أستمع لاشتباكات وقذائف في جرمانا القريبة من بيتي، ولا أعلم أين تسقط ومن أين خرجت ولا حتى لماذا! وأجدني أُردد بعد سامي يوسف: "ماذا زرعنا لنحصد كل هذا الخراب!"
ليست هذه المرة الأولى التي أرفع بها عتبة الألم. ففي السادس من آذار المنصرم، تذكّرت جرح طفلي من دون أن ألمح الندبة، جرحٌ فُتح للمرة الألف في البلاد. سارعت لتغطية وجهي خشية أن تمرّ مشاهد الألم وتسلب من روحي أمنها. هذا هو الخذلان إذاً، تكوّم فوق وجوهنا فحجب أمل الغد، كل ما نرجوه ألا يعود بنا التاريخ إلى ما مضى، فما عادت لنا قدرة على تحمّل ألم خياطته.
سألتني صديقتي الساحلية: "ماذا عنكم؟". أجيبها: لا شيء يذكر، وكأننا نحيا في كوكبٍ منفصل، وهذا ذنبٌ آخر نحمله من دون أن نقترفه. كيف لنا، نحن الجسد الواحد، ألا نتألم؟ كيف لا تهزّنا حمى ترتعش لها جوارحنا؟ لا شكّ في أن النوم جافى كُثر مع كل محنة إنسانية على هذه المعمورة الخربة: زلزال.. حريق.. حرب.. مجزرة.. لم أكن أتوقع أن يكون التعامل حذراً مع أي منها، فالإنسانية تتعاطف باستحقاق مع كل بريء. تعرّفت على شعور الحياد للمرة الأولى عند البعض، بل وفجعت بشعور التشفّي. كأننا كسوريين لا نتفق على التعاطف مع الضحية. إما بنكران ما يحدث، أو بتبريره، أو بمتابعته على أنه مشهد سينمائي يعاد تصويره ويفتقر إلى الواقعية.
لا بدّ من تفسيرٍ منطقيّ لما يحدث، لا سيما أنه ظاهرة مجتمعية وليس أحاسيس فردية. ما الذي يجعل جمعٌ يتهجمون على منشور فايسبوكي يدين قتل مدنيين أبرياء؟ لمَ كل هذا التصويب الحادّ، وكأني فعلاً تائهة وعليّ أن أرجع إلى سراطهم المستقيم! وجنح البعض إلى إعادة مشاركة فيديوهات مجازر الأسد، كمَن ينبش قبور أحبته، ويقول بصمت: "انظروا كم تألمنا، ولم يرفّ لكم جفن، كيف لنا أن نتعاطف؟!". قالت إحداهن: لن ننسى كيف رقصوا على جثث شهدائنا. وأضاف آخر: في إدلب، حين هجم الموت علينا، كان هناك من يحتفل بافتتاح مول في المدينة ذاتها.
لعلّ المنطق اليوم، إن كان له لسان، لأفادنا بنصيحة نحن أبناء البلد الواحد، وبرغم الجراح والاختلاف، أن نعلي الصوت بأن نبقى بلداً واحداً لا يتجزأ. نتعالى فوق الاتهامات والتخوين، نتوقف عن إنكار نزيفٍ حين لا يكون "يخصّنا"، نتوقف عن المزايدة بالوطنية، فحب الوطن يعني المشاركة، لا النبذ. قال أحدهم:" كيف لكِ أن تقفي مع من قتلوا أخيكِ؟". اليوم قُتل أخي مجدداً، مع كل وجه بريء استُبيح دمه. كل بيت سوري من أولياء الدم، فإما أن ندفع بعجلة الثأر فلا نُبقي أحداً، أو ليكن بيننا شجاع يتصدى للعجلة وإن دهسته، علّها تخفف من سرعتها فتتعثر وتقف. نريدها دولة تُبنى بالقانون، لا عشائر يمضغها الثأر ويبصقها في خيم عزاء.
الأمّ مدرسة
شاهدت مقابلة لإعلامي الثورة جميل الحسن في بانياس، مع أسر عاشت تفاصيل الرعب الأخير. إحدى الأمهات غمزت ابنتها أن تغطي شعرها، في حين استنكر الإعلامي الأمر وأخبرها بأن تبقى على راحتها. أصوات العائلات المكسورة، قادرة على غناء مواويل العتب لألف عام مقبلة. ترحّم الإعلامي على أرواح الشهداء، وترحمت السيدة على شهداء الأمن العام. إنها المرة الأولى في تاريخ الثورة التي تتسع فيها الشهادة لطرفين في هذه البلاد التي ضاقت بأولادها.
في ضفة مقابلة، أطباء ومهندسون ونخب ثقافية لا يختلف خطابها التحريضي عن أي غوغائي جاهل. هذا ما أثار في نفسي بركاناً من الأسئلة: إذاً من سينشر خطاب العقل اليوم؟ لماذا نعوّل على العلم ونبذ الجهل، طالما وقعنا في فخ التحريض؟ هل تعمّق الجرح فما عاد من حلّ يرتقه؟ هل عجزنا عن لملمة هذه المحرقة التي أحرقت قبلنا بلاداً وعباداً؟ تأتيني الإجابات في رسائل مسرّبة لأمٍّ تناشد ولدها، عنصر الأمن في "الهيئة"، بألا يقتل بريئاً ولا يظلم مدنياً غير آثم. هذه الأم المهجّرة عشرة أعوام في الشمال، وقد ثكلت أبناءها وإخوتها قرابين للثورة، هي من أولياء الدم الذين لا يريدون لأحد أن يجرب ما ذاقوا. ولئن تغيب قوانين الحروب عن النزاعات الأهلية، كما قالها يوماً الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، يتطاول قليلو الأدب في حضرتها.
الأم هي من تلمّ تلك الشرذمة، وتؤدب من تجاوز خطوط الحُرُمات، وحدها من تكبّل أيادي حملت السلاح وعزمت على الانتقام الأعمى. لا خلاص اليوم بالعلم والثقافة والشهادة الأكاديمية، فالأم هي المدرسة التي ستعدّنا. علّ النُخب الجاهلة، والأجيال ربيبة الحرب التي شوّهت إنسانيتها، تخجل من أميّتها وتقبّل الطاعة في يدها لنجد بوصلة الخلاص.
مجاز الألم
أتردد في الاطمئنان على معارف لي في جرمانا، لا أريدهم أن يصدّقوا بأنها حرب جديدة! ردّت مَن عُرفت بـ"سنديانة الساحل"، زرقة السباهي، على الواقف فوق جثة ابنها ويتهمها بالغدر، بكلمة واحدة: "فشرت". وهنا لا أبرّئ أو أجرّم أبناءها، إنما أتحسّس نتوءات الكلمة، هي ذاتها كلمة وائل الدحدوح التي قالها مفجوعاً بجثث عائلته: "معليش". كلمة واحدة تختصر الألم كله، وتلخص أعواماً من القتل والتهجير. هذا هو المجاز الذي تعجز عنه لغة الحروب، ومهما طغى الموقف وتجبّر، تهزمه كلمة. الكلمة اليوم هي رصاصة تقتلنا كلنا، وتجعل كل الجبهات خاسرة، أو بلسماً يسكّن الألم.
قالت صديقتي حين أخطرتها بتخوفاتي من تغيير مسرح الجريمة هناك: "صدقيني ما عاد مهم". وصلت إلى هذه المرحلة من الحزن واليأس. ليس مهماً. العدالة لم تعد مهمة؟ هذا هو الخذلان الذي لم نعرفه بعد!
تقول صديقة أخرى بأن ابنتها، ومع تكاثف الرصاص، سحبتها من يدها وقالت: "ماما أنا ما عاد بدي عيش"، لتهزم ابنة الأعوام السبعة، الأمل، بكل لغات العالم. خذلان آخر يصبّ في بحر الهزيمة، ويعيدنا لماضٍ قشّر حزننا مراراً حتى وصلنا إلى اللب الأكثر مرارة.
يعلمني صديقي بأن كل ما يريد أن يعرفه الآن، ليس ملابسات ما حصل، ولا عدد الضحايا، ولا مَن قتل مَن، بل ما أحسّ به المعارض السوري لنظام الأسد وسجين معتقلاته، الشاعر عبد اللطيف علي، قبيل قتله ونجليه بدمٍ بارد. وهنا، تعود عبارة واحدة لترسم مشهدنا الأخير: "يا حيف".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها