الخميس 2025/05/01

آخر تحديث: 00:26 (بيروت)

جرمانا...بالسريانية: "المقيمون"

الخميس 2025/05/01
جرمانا...بالسريانية: "المقيمون"
"المروّض" للفنان السوري Imranovi: "فقط الحب الحقيقي والبراءة يمكنهما السيطرة على الجنون والكراهية"
increase حجم الخط decrease
في سوريا اليوم، سوريتنا الجديدة، يبدو حديث "الأقليات" رائجاً، رخيصاً، سهل الهضم مثل "ريلز" فاقدة للمعنى.

لا يحيد هذا الجديد عن كل ما هو متنبأ به، كأننا ملعونون  بالنبوءات، إذ تُستعاد اللغة من ماضٍ بذيء، بلا ذرة إبداع، بلا خجل حتى. كأن من يسحبنا نحو الهاوية، نسي عدد الجثث التي شبع منها البحر، وعدد الأسماء التي ابتلعها قهر السجون.

تُوزع شهادات الوطنية كما تُوزع الرشاوى في الأزقة المظلمة: على الطوائف "الكيوت" بتعدادها السكاني "الناعم"، تلك الطوائف التي لم يُسمع لها صوت، إذ صمتت حين وجب الكلام، وبأدب الضيف الطارئ على البلاد وتاريخها، لم تطالب يوماً بحماية دولية ولا بعدالة لدمائها. وكأن كل سوري صار ملزماً باقتناص اعتراف، ومرحى "مخاطية القوام" من إعلام لزج على وطنيته، وممن؟ من الطرف الأقوى، الذي يزيد بملايينه عن أعداد "الأقليات".

ها نحن، مكوّناً بعد آخر، نطالب المحرِّر المنتصر أن يسمح لنا بالتأهل للحياة فوق تراب هذه البلاد محترفة لنكبة، عديمة الذاكرة وهي ترشد العائدين لأرضها، كأنما لم يذهبوا لحرب. كأنما لم يسقط لهم نظام، ولم يُقتل لهم آلاف. كأنما لم يعد مخجلاً إن كان موتاها أبرياء أم لا، إن كان ضحاياها معذبين، مفجوعين، أو حتى مقتولين بالحلم. فالمهم على أي جهة يعقدون صلاتهم، وبحضرة أي نبي يحلفون أيمانهم، وعلى أي مقام يقرأون وداعاتهم.

اسمها جرمانا، مثل غيرها من المدن التي ذاقت مرارة التشظي، تذكرنا أن الأوطان لا تنهار فجأة، بل بالتدريج، بانفلات رصاصة هنا، بشائعة قذرة هناك، بخطاب تخوين رخيص ينتشر كالنار في هشيم التعب.

في هذا الفجر السديمي، حين تهتز جرمانا على وقع الرصاص، ويغتسل الصباح بدم أبنائه، يعود سؤال قديم يتثاءب بين أطلال المدينة: هل بوسعنا بعد كل هذا أن نؤمن بالأمل؟

ليس جديدًا أن تتأرجح سوريا على حافة فخاخها الطائفية، أن تتورط الحارات القديمة في مناوشات لا تشبه وجوه ناسها، بل تشبه قهرهم المخزن لسنين، سنين من سوء الفهم والتخوين والتخلي.

جرمانا، اسم عتيق حملته الأرض قبل أن تتبدل وجوه ساكنيها.
جاء من السريانية، ويعني: "المقيمون"، أولئك الذين عقدوا مع الحياة معاهدة صامتة على البقاء. على تخوم دمشق، نشأت جرمانا بلدة صغيرة، محاطة بالبساتين، مشهورة بكرومها وأشجارها، يقطنها خليط غني من الطوائف، يغلب عليهم الدروز والمسيحيون. وكانت عبر عقود طويلة مكانًا للجوء الداخلي، استقبلت المهجّرين من الجولان المحتل، ثم لاحقًا، آلاف العائلات النازحة من أتون الحرب السورية.

جرمانا كانت وعدًا مبكرًا بالسَّكينة، مقامًا لمن أراد أن يزرع جذوره في تربة لا تخونه. لكن المدن، مثل البشر، تتعب وتصاب بالنسيان. المدينة التي بُنيت على فكرة "الإقامة" تصارع للحفاظ على ذاكرتها وعلى فكرة العيش المشترك الذي لم يكن شعارًا فارغًا، بل خبزًا يوميًا مبللاً بالوجع. في زمن الانهيار، صار الاسم نفسه علامةً على الخيبة، وصار "المقيمون" غرباءَ بين جدرانهم، يطاردهم الخوف أكثر مما تطاردهم البنادق.

جرمانا اليوم مدينة تحمل عبء اسمها، كما يحمل العاشق القديم عبء ذكرى لا تموت.
مكانٌ يعرف أن الالتصاق بهذه البلاد، لم يعد مجرد فعل حياة، بل معركة يومية ضد البشاعة.
في هذا الخراب النازف قيحاً، يصبح الحديث عن الأمل فعلاً مشتبهاً فيه، وتصبح صناعته أصعب من صناعة المستحيل. ففي سوريتنا الجديدة اليوم، أن تواصل الإيمان بالحياة، بالكرامة، بالعدالة، هو صناعة المستحيل المثلى، هو اختراع للضوء من شرانق شمس آفلة. حيث يُنفى الرجاء، والتوق للآتي يُرمى عن أكتاف الحالمين كغبار أو أسفلت طرقات. يُرمى الحلم عن الأرواح كشعور عابر، أو مجرد انتظارٍ عبثي "لغودو" الذي سيفشل مرة أخرى بالإتيان بما قد يجود به الغيب، حيث لا جديد في الحكاية السورية. كله حصل من قبل، كله يجري بدقة حاقد، وإتقان جلّاد. الجديد فقط، والمفزع أيضاً، هو كمّ الاعتياد الذي يتسرب به الدم إلى العيون من دون أن يعميها. وكأن أحمرنا القاني، لم يعد لوناً للجلنار، بل للوجع. الجديد في حكايتنا السورية، أننا كأنما لا غد لنا، لنا فقط نسخ مشوهة من الأمس ومن الأبد.

كأنما نريد أن نثبت ما تنبأنا به، كأنما يريحنا ألا تخذلنا تحليلات عجائزنا الآتية من حروب بعيدة، والهسيس المخنوق للأمهات وهن يخزنّ مؤونات البرغل والنحيب للمجازر المقبلة، كأنما أنهار الدم التي ظلت تلوح في خيالنا الحكائي لسنوات، قفزت الآن طازجة "حديثة العصر" من كوابيسنا المأتمية.

هكذا، بسهولة الماء، نُرمى كلنا، كل البلاد، في لحظة غش تتراقص الأوهام فيها حول حماية دولية، بينما توزع شهادات الوطنية على الطوائف "المؤدبة". ويصبح الإصرار على معنى مشترك، على فكرة وطن يتسع للجميع، ضرباً من الجنون المنظم والانجرار السهل نحو حروب الهويات الكسولة، الضيقة، عديمة المخيلة حتميًا. هكذا، من دون مسودات ونسخ للتعديل، تأتي كل النهايات مكتوبة سلفاً، كمحاكاة بليدة لنص خراب عتيق. ومع هذا، كيف لا نصرّ على أن صناعة الأمل، وكل ركن من هذا البلد المكبل بحكايته، بحاجة لمعجزة يبدو الأمل فيها صناعةً للمستحيل؟ كيف باستطاعتنا أن نحيد عن النبوءات، وألا تقتلنا مصائرنا التراجيدية المكتوبة في ألواح الآلهة اللامبالية؟

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها