تبدو هذه المقاربة مختلفة نسبياً عن تلك التي شهدناها خلال أشهر الحرب الأولى، مع محافظتها على جوهرها العدواني، إذ تقوم على عدم الاكتراث واللامبالاة بتبرير المجازر للمجتمع الدولي، وتزوير الحقائق بخصوصها، وتركز على ذكر المستهدفين من حركة "حماس"، سواء من ذراعها السياسي أو العسكري والأمني. كما تحاول دعاية الاحتلال أن تنشر صورة دموية لترهيب الفلسطينيين ومنطقة الشرق الأوسط برمتها، فإرهاب الفلسطينيين والعرب أهم من بذل الجهد لتحسين صورة إسرائيل أمام العالم، بمنظور سردية الاحتلال المُستجدّة.
غياب مؤتمرات الناطق اليومية
ومن أبرز المؤشرات التي تؤكد هذا الاستنتاج، هو أن المتحدث بلسان جيش الاحتلال لم يعد بحاجة إلى مؤتمر صحافي يومي، للإعلام العبري والإنكليزي، كون الغطرسة الإسرائيلية وصلت إلى مرحلة اللامبالاة بفرض البروباغندا الإسرائيلية على أجندة الإعلام العالمي.. ولأن تل أبيب تريد تعزيز صورة "الرعب واليأس" لدى أعدائها أولاً وأخيراً، ولا شيء آخر.
وهذا ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى الاعتماد على البلاغات المكتوبة بشأن هجماته على غزة ولبنان وسوريا، في مقابل غياب مؤتمرات المتحدث الصحافية اليومية التي برزت خلال أشهر الحرب الأولى فور اندلاعها في 7 تشرين أول/أكتوبر 2023، لدرجة أن المتحدث الجديد باسم الجيش، إيفي دفرين، خرج الخميس لمرة واحدة منذ توليه مهمته قبل نحو شهر، من أجل إيصال رسائل للنظام السوري الجديد وتركيا وغيرهما، ولتصدير صورة إسرائيل "الحاسمة والمُرعِبة"، وليس لخلق صورة "لطيفة" عنها.
حتى نشرات الأخبار في الإذاعات والتلفزيونات العبرية، لا تعطي أي هامش للمجازر الإسرائيلية في القطاع، وتركز في عناوينها على إعلانات الجيش بشأن حصاد الاغتيالات لأسماء جديدة في غزة، وهو ناتج ليس فقط عن قيود الرقابة العسكرية على الإعلام الإسرائيلي، وتحديد مسارات المعالجات اليومية ليوميات العدوان على غزة، بل أيضاً لأن الجمهور الإسرائيلي نفسه شهد تحولات، وتلاشت الأصوات اليسارية التي تعارض القتل الجماعي للفلسطينيين، أو تلك المحذرة من مخاطره الوجودية على إسرائيل، وليس بالضرورة لسواد عيون الفلسطينيين.. فحتى المتظاهرين الرافضين لاستئناف الحرب، ينبع احتجاجهم من خشيتهم على حياة من تبقى من المحتجزين الإسرائيليين في غزة، أو لمزايدات سياسية داخلية، وليس رفضاً مبدئياً لقتل الفلسطينيين.
مع العلم أن بعض أقطاب اليمين المتدين في الحكومة الإسرائيلية، لديهم اعتقاد بأنه كلما قُتل فلسطينيون وعرب أكثر.. كلما سرّع ذلك نزول المسيح الذي لم يأت بعد، وفق اعتقادهم، وأنهم حينها فقط يتمكنون من حكم العالم!
بازار الأرقام
وإلى جانب ذلك، تستخدم إسرائيل في خطابها السياسي والعسكري مصطلح "تشديد الضغط التدريجي على حماس"، في محاولة لحرف الأنظار عن قتل الفلسطينيين بالجملة، بمن فيهم من أطفال ونساء، وأيضاً من أجل تطبيع مشهدية قتل الفلسطينيين بالجملة أمام عيون العرب والعالم. وما دل على ذلك، هو اعتراف صحافي يساري على شاشة التلفزيون العبري الرسمي "مكان"، بأن هناك معايير محددة كان الجيش يتبعها خلال أشهر الحرب على القطاع، قبل تنفيذه القصف، ولم يعد ينتهجها، مضيفاً أن القصف المدفعي والجوي هو غير مسبوق من حيث الحدة والكثافة والنتيجة، مقارنة بما كانت عليه الحال خلال أشهر الحرب قبل عقد تهدئة ثم استئنافها. وفي ذلك، يخوض الاحتلال لعبة وبازار "الأرقام" في قتله الجماعي للفلسطينيين، عبر خلق واقع المفاضلة بين أعداد الشهداء الفلسطينيين، بقوله: "لقد قتلنا 50 وليس أكثر؛ لأن سلاحنا ذكي واتخذنا الإجراءات اللازمة لعدم قتل عدد أكبر"!
ووفق عقلية الاحتلال، فإن لعبة الأرقام هذه إلى جانب وسائل نفسية ودعائية أخرى، تخدم مساعيه لفرض حالة الاعتياد على قتل الفلسطينيين بالجُملة ببث حي ومباشر، معتمداً على نظرية "تكرار مشاهدة الصورة غير العادية.. يجعلها عادية بعد حين"!
سردية "الاستثناء"
والواقع أن هذه المقاربة الإعلامية والدعائية في إسرائيل تستند أيضاً إلى منطقها العدواني القائم على سردية "الاستثناء والإصرار"، لإعطاء نفسها أحقية الإجرام والقتل للفلسطينيين والعرب، مع إظهار أن ما يجري في غزة حالياً وما سيكون في الآتي من الأيام، هو بضوء أخضر أميركي كامل، و"بشيك مفتوح". وكل ذلك بهدف تحقيق غايتها ببث حالة اليأس الشديد في نفوس الفلسطينيين، بموازاة إجبارهم على النزوح من جديد، باعتباره أكثر وسيلة قاهرة للفلسطينيين، بل "أشد من الجوع والقتل"، حسبما أكد حرفياً نازحون غزيّون لـ"المدن".
أما السوشال ميديا، فتتصدرها تغريدات دموية لصحافيين وناشطين إسرائيليين، تحتفي بالمجازر بحق الفلسطينيين، أو تأسف على إفلات من تصفه بـ"مطلوب" من الاغتيال والقتل، وأخرى من قبيل "إن شاء الله يموتوا كلهم"، على سبيل التمني بألا يبقى فلسطيني واحد على قيد الحياة.
وفي خضم دعاية "الترهيب واليأس"، تصدرت مواقع التواصل صورة في غاية القهر والوجع، أظهرت لحظة تطاير جثامين الشهداء إلى السماء ثم نزولها على الأرض، من شدة القنابل التي استخدمها الاحتلال لقصف مدرسة "دار الأرقم" بحي التفاح بمدينة غزة. وفوق ذلك، تحاول إسرائيل تحميل الضحايا المدنيين مسؤولية قتلهم، عبر القول في خطاباتها إنها دعت مراراً إلى "الهجرة الطوعية" للسكان؛ للإفلات من القتل!
إذكاء الجدل الفلسطيني
كما تحاول تل أبيب إذكاء جدل ثنائي بين الفلسطينيين واللبنانيين وعموم العرب بشأن السبيل "الأفضل" لمقاومة إسرائيل ودرء عدوانها. وذلك في محاولة بائسة منها لتبرئة نفسها من دم الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم، في مسعى لإخراج نفسها من دائرة الاتهام والمسؤولية، وتعزيز مقاربتها الإعلامية الجديدة القائمة على عدم الاكتراث بتقديم صورة "إيجابية ودفاعية" عن الدولة العبرية في هذه المرحلة، في مقابل تعظيم صورة "إسرائيل المُرعبة للعدو بلا استثناء أو قيود"، بهدف "الردع المُطلق".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها