الأربعاء 2025/04/30

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

"يا غايب": نبوءة فضل شاكر التي تحققت

الأربعاء 2025/04/30
"يا غايب": نبوءة فضل شاكر التي تحققت
increase حجم الخط decrease
أطلق المغني اللبناني فضل شاكر العام 2003 أغنية "يا غايب" التي أوصلته، بين ليلة وضحاها، إلى النجومية. اختار المغني الشاب يومها الغياب كثيمة لأغنيته الأولى، غياب اكتسب بعد سنوات قليلة بُعداً آخر تماماً مع ابتعاده عن الفن طوال سنوات لتصبح أنشودة الحب تلك نبوءة مبكرة لمصير صاحبها.

في العام 2013، اختفى نجم الغناء الرومانسي من الأضواء، ليظهر لاحقاً في مقاطع مصورة، بلحية كثيفة ولهجة متحدية، وسط اتهامات خطيرة بتورطه في أحداث أمنية دموية إلى جانب تيارات متطرفة. تحول صوت الحب والدفء، إلى اسم تتنازعه السياسة والدين والقضاء.

واليوم، وبعد أكثر من عقد على غيابه، تأتي سلسلة "يا غايب: فضل شاكر"، التي عرضتها منصة "شاهد"، وهي من إنتاج شركة "2Pure" وإخراج فاطمة رشا شحادة، كمحاولة جريئة لإعادة رسم ملامح القصة الملتبسة. السلسلة من كتابة جورج هزيم ونور المجبر وناي عازار، تجمع بين السرد الوثائقي والمشاهد الدرامية، لتفتح ملفاً لم يُغلق بعد، وتطرح السؤال الذي تردد في ذهن كل من طرب يوماً لصوت فضل وصُدم لاحقاً بتحوله: من هو فضل شاكر الحقيقي؟ ولماذا فعل ما فعل؟


الفنان اليتيم

ولد الطفل فضل شمندر، في مدينة صيدا جنوبي لبنان، لأسرة متواضعة عاشت تحت خط الفقر. والفقر بالنسبة إلى فضل مرادف لليتم. فحين عجزت أسرته عن مواصلة تأمين غذائه، أرسلته الى دار لرعاية الأيتام وهو طفل لم يتجاوز سنواته الخمس. "يتيم وأهله عايشين.. هذا هو الموت بعينه"، قال شاكر بعينين مغرورقتين بالدموع، خلال المقابلة التي يتضمنها الشق الوثائقي من المسلسل. وأضاف: "سموني الفنان اليتيم تعاطفاً"، بنبرة تفصح عن امتنانه للجمهور الذي تعرف على الألم الدفين في صوته العذب، حتى وإن تراقص على ألحان تنشد الحب والسعادة.

لكن فضل الطفل لم يمتثل لمصيره بالطاعة، وحاول مراراً الهروب من الميتم. ومنذ سنواته الأولى التي يصورها المسلسل بسرد غير خطي، يكتشف المشاهد أن الطفل لن يستسلم بسهولة للظلم، بل سيقاومه مراراً حتى ينال حريته. يخرج فضل المراهق من الميتم الى سوق العمل، فيتنقل بين أعمال يدوية متعددة لدى أرباب عمل وصفهم بالمتنمرين والمستغلين، وغالباً ما كانت تنتهي علاقته بهم بشجار، لرفضه الإهانة أو التنمر... إلى أن اكتشف أخيراً موهبته في الغناء، فبدأت مسيرته كمغني أعراس على أسطح مخيم عين الحلوة في صيدا.


ليست مشاهد طفولة فضل شاكر المعذبة، مجرد وسيلة لاستعطاف المشاهد، كما توضح المخرجة فاطمة رشا شحادة في حديثها لـ"المدن"، "بل هي أساسية لفهم شخصيته لاحقاً، وسعيه الدائم للانتماء إلى أمٍّ أو جماعة أو قضية بعدما تخلى عنه أهله. لكن محاولاته هذه غالباً ما كانت تنتهي بالفشل".

لكن البداية المتواضعة لمسيرة فضل، على أسطح المخيم الفلسطيني، سرعان ما فرقعت مع "يا غايب"، التي نقلته إلى أكبر المسارح العربية والعالمية، فتحول فضل شمندر إلى فضل شاكر. تبع ذلك توقيعه مع شركة "روتانا"، فتوالت نجاحاته أغنية تلو الأخرى، إلى أن ارتطمت مسيرته بالحائط المسدود ذاته الذي اصطدم به الربيع العربي، وتحديداً في سوريا، حيث تدفقت أنهار الدماء، من دمشق إلى عبرا.

الفنان المتهم

حلّ الربيع العربي فيما كان شاكر يتأمل فكرة الاعتزال، بعد شعوره بالنفور من الوسط الفني الذي وصفه بـ"الوسخ"، ووسط تقربه من الدين وحجّه إلى مكة. ومع اندلاع الثورة السورية، تابع شاكر مشاهد القمع والقتل. "ناس عم تغني وولاد عم تنذبح"، قال يومها معلقاً على انفصال الوسط الفني العربي عن معاناة الشعوب.

وتماهى شاكر مع الوجع السوري، وشعر بمسؤولية دفعته إلى الانخراط في الصراع. وفي لحظة انفعال، صرخ في مسرح مهرجان "موازين" في الرباط أمام آلاف المستمعين: "الله ياخد بشار الأسد"، وهي الجملة التي شكلت نقطة تحول في حياته. وأقرّ: "هون أنا خلص صرت خارج السيطرة". وراح شاكر يشارك في التظاهرات والتحركات المعارضة للنظام السوري، وانضم إلى جماعة الشيخ أحمد الأسير، التي دخلت لاحقاً في صدام مسلح مع الجيش اللبناني وسرايا المقاومة في عبرا.


أرخى المغنى لحيته، وأعلن توبته واعتزاله الفن، مكرساً نفسه لقضية سياسية ودينية أو كما يصفها بلسانه، "قضية انسانية". دفع الثمن باهظاً، فأضحى "بلا بيت ولا فن ولا عيلة ولا قضية". الإعلام سبق القضاء في محاكمته، ووسمه بالإرهاب، خصوصاً بعد ظهوره في فيديو قال فيه "فطيستين"، وظُنّ حينها أنه يقصد جنديين من الجيس اللبناني، رغم أن شاكر نفى ذلك وقال أن الفيديو سبق معركة عبرا، وأن الكلمة كانت بحق قتلى من سرايا المقاومة، نافياً مشاركته في المعركة أصلاً.

وقال شاكر: "قصتي إنسانية وليست سياسية،" متهماً خصومه السياسيين وإعلامهم بتحريف دوافعه و"تعاطفه مع المظلوم"، كما سمّاه، إلى ورقة سياسية صراع سياسي تغطي جرائمهم.

الفنان التائب

منذ العام 2013، توارى المغني الذي جال العالم بصوته، مختبئاً في مخيم عين الحلوة، حيث لا تطاوله يد الأمن والقضاء. يرفض تسليم نفسه بحجة أن القضاء مسيّس ويتحكم فيه خصومه السياسيون، ما يجعل صدور حكم عادل أمراً مستبعداً. وأكد هذه الرواية تصريح شامل روكز، قائد فوج المغاوير في ذلك الحين، حين قال في مقابلة سابقة أن لا دليل على مشاركة شاكر في المعركة. لكن عدم ثبوت ارتكابه أي جرم لا يعني البراءة، فالأمر، كما يقر روكز، قد يحسم بناءً على هوية القاضي وحظ المتهم.

يحاول العمل في منة "اهد"، إنصاف شاكر عبر منحه مساحة لرواية قصته بصوته، بعدما قاطعه الإعلام لعقد كامل. هذه المفارقة تجسدها شخصية مايا (ستيفاني عطالله)، الصحافية التي تبحث عن حقيقة ودوافع الرجل التي غيبت عن الرأي العام.

واعتمد صنّاع العمل المزج بين الدراما والوثائقي، حرصاً على قدر من الموضوعية والمساءلة من دون الانزلاق نحو التبرير أو التلميع، كما تشرح مخرجة العمل. ففي المقابلات المباشرة، كما في المشاهد الدرامية، تطرح السلسلة أسئلة صعبة عن رحلة صعود نجم في ساحة الفن والرومانسية وهبوطه في دهاليز السياسة والعنف. هذا التحول تنقله العدسة بذكاء، عبر تبدل الإضاءة من دفء يرافق فضل "الفنان"، إلى برودة تحيط بفضل "المتهم بالإرهاب"، في انعكاس بصري لمسار داخلي مضطرب.

وتبتعد السلسلة عن إصدار الأحكام. وأوضحت شحادة: "نحن لسنا قضاة، بل رواة قصص"، مضيفةً أن أهم ما في سرد القصص هو "محاولة فهم سبب قيام شخص ما بما فعله. هذه السلسلة تدعو الجمهور للتأمل والتساؤل والشعور، لا لإصدار حكم". أما عن سبب اختيارها للعمل، فقالت: "في بلداننا العربية هناك الكثير من التابوهات التي لا يمكننا الحديث عنها، فضل شاكر هو أحدها. لكن بالنسبة إليّ النقاش في أي مشكلة هو الخطوة الأولى نحو الحل".


يحاول شاكر اليوم الخروج من "التابوه" الذي ساهم في وضع نفسه داخله. وفيما لا يخلو خطابه من شكوى الظلم، إلا أنه يحمل أيضاً بذور مراجعة ذاتية. يقدم نفسه كضحية غير مثالية. ضحية ارتكبت أخطاءها، وبالغت في انفعالاتها، ودفعت الثمن. يعود الفنان التائب، تائباً من جديد، معتذراً ومطالباً بالاعتذار، كاشفاً أمام جمهوره عن شخصية تتجاذبها التناقضات: هو اليتيم رغم أن أهله على قي الحياة، الحنون الحاقد، صاحب الحس المرهف والغضب الحاد. هو الفنان المتهم بالارهاب، ابن المخيم الذي سكن الفيلا. الغائب الحاضر الذي يَعِد، رغم كل شيء، بأنه عائد. فهل يرد الجمهور: "والله ما ننسى اللي في يوم حبيناه"؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها