بتتبع يوميات إبادة غزة المستمرة منذ أكثر من سنة ونصف، وما يتخللها من مشاهد قتل بالجُملة ومسح شامل لمناطق واسعة بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، لدرجة تفوق تصور العقل البشري.. تبرز الكوميديا السوداء كوسيلة يضطر المواطن الغزّي اللجوء إليها؛ علّه يفرغ ضغطه وتوتره وقهره، إلى جانب التخفيف عن محيطه من أقرباء وأصدقاء يواجهون أهوال القصف والموت والنزوح والجوع طيلة 18 شهراً.
فالموتُ في غزة ليس فقط استشهاداً جراء قنابل الاحتلال ورصاصه، بل أيضاً قهراً وحزناً متفجّراً. وحتماً، لا أحد يدرك أهمية وقيمة الكوميديا السوداء والضحك والسخرية والنكات في غمرة الحرب، إلا الغزّيون المكلومون وحدهم، فهي تبدو وسيلة نجاة لهم ولو آنياً.
وغالباً، لا يجيد المتابع من بعيد ومن وراء الشاشات لمستجدات المجازر الإسرائيلية في القطاع، فَهْمَ المعنى المنشود من أداة الكوميديا السوداء وشقيقاتها في زمن الحرب، وربما سيعتبرها البعضُ ضربا من "الهستيريا وفقدان العقل" نتيجة الفقد والقهر والوجع.
ضحكة زعيتر المقهورة
وجاءت ضحكة الفنان الكوميدي محمود زعيتر من قلب القطاع، لتتصدر أبرز الأمثلة على ذلك، فهي اختزلت قهراً بلا حدود ودون مُكابَرة، وذلك عندما خرج قبل أيام بفيديو نشره على صفحته في مواقع التواصل، تحت عنوان "الضحك في الوقت الغلط.. ليلة صعبة مرت على غزة"، حيث تحدث زعيتر بضحكة تبدو "هستيرية" لمدة دقيقة عن حالة قلق وتوتر عايشها مع سكان منطقة دير البلح وسط القطاع، خشيةً من سيناريو إجبار الاحتلال لهم على النزوح من منازلهم أخيراً. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ منطقة وسط القطاع تتعرض لقصف إسرائيلي عنيف منذ بدء الحرب، لكنها لم تشهد نزوحا كشمال القطاع وجنوبه.
وتابع زعيتر بضحكته المُختزِلة لقمة الوجع والقهر وشعوره بالخذلان، أنّه عندما ترددت أحاديث عن إصدار جيش الاحتلال "أوامر إخلاء" مناطق بدير البلح، تساءل ضاحكاً: "هل دخلنا على خط النزوح؟!.. وإذا جاء دورنا هل أجلب قنينة الزيتون التي احتفظت بها أمي؟".. لكن أكثر الأسئلة إيلاماً هو: "ما هو أهم شيء أجلبه من غرفتي عند النزوح؟!".
الحق أن زعيتر هدف من الفيديو، وبشكل غير مقصود بالضرورة، أن يحقق غايتين: أولاً، تفريغ ضغط هائل انتابه كغيره من الغزيين في الأيام الماضية جراء هول مشاهد القتل الجماعي في مناطق عديدة بالقطاع، وأيضاً باعتبار الفيديو وسيلة وأسلوباً لبث سردية الألم إلى العالمَين العربي والغربي، بطريقته الخاصة.
في المقابل، تعاطى المتفاعلون مع الفيديو بمزيد من الألم والتفهم لضحكة القهر التي لازمت محمود على مدار 60 ثانية، فالبعض وجدها فرصة للدعاء لغزة والتعبير عن تعاطفهم مع محمود وكل الغزيين، وكتبوا له "حرقت قلبنا بهالضحكة إللي كلها وجع وألم وعجز".. فيما امتلكت قلّة من المعلقين العرب ترف التحليل النفسي: "ضحكتك دليل على أعراض نفسية واضطراب ما بعد الصدمة نتيجة الحرب، حاول أن تتماسك، وربنا يهونها".
بالمحصلة، بدت ضحكة الفنان محمود زعيتر في وقتها الصحيح تماماً، وإن اعتبرها محمود "في الوقت الغلط"؛ لأنها ضرورة ملحة للاستمرار والصمود، وهي ليست انفصالاً عن الواقع المؤلم، وإنما مهارة لازِمة لمواجهة أعقد الظروف وأخطرها بشجاعة كبيرة.
ضحكة.. بعد يأس
والحال أن محمود زعيتر يواظب دائماً على نشر فيديوهات يتحدث فيها عن مشاهدات يومية للعدوان الإسرائيلي، وسبق ضحكته المخنوقة بالوجع الشديد، فيديو آخر كان فيه يائساً جداً، إذْ تحدث فيه عن أصوات ومشاهد في مجازر الاحتلال الأخيرة، لم يستطع تجاوزها، ومنها فيديو تطاير جثامين الشهداء في السماء بارتفاع 30 إلى 40 مترا من شدة القنابل التي استخدمها الاحتلال في قصف مدرسة "دار الأرقم" بحي التفاح بمدينة غزة. وقال محمود إن صوت فتاة باكية وهي توثق هول المشهد، يراود مسامعه باستمرار، وكذلك الحال بالنسبة لتطاير الجثامين، إذ لازم عقله أسئلة مليئة بالألم من قبيل: "هل كانوا على قيد الحياة لحظة صعود أجسادهم إلى أعلى؟.. أم كانوا مستشهدين؟!".
كما تطرق زعيتر إلى فيديو آخر وثق اللحظات الأخيرة لفريق إسعاف تعرض لإطلاق نار كثيف من قوات الاحتلال في رفح، فأُعدِموا جميعاً. وفي فيديو آخر، طرح زعيتر على متابعيه أن يعددوا أنواع "الموت" الذي تعرض له الغزيون، طالبا منهم أن يذكروا رقم 1 "الموت حرقا". وسأل سؤالا لا يخلو من العتب على العرب، بقوله: "ما هي الموتة (الكيوت) التي تتمنوها لنا ويمكنها تحريك مشاعركم لأجلنا؟!".
ضحك يدرأ الرعب
وبالعودة إلى الكوميديا السوداء والفيديوهات الساخرة، فقد انتهجها غزيّون كُثر خلال الحرب، لدرجة أنها باتت "جزءاً أصيلاً من حياتهم اليومية"، كما يقول الصحافي حكمت يوسف لـ"المدن"، مبيناً أن الدبابات عندما كانت على بعد أقل من كيلو عن منزله بالنصيرات وسط القطاع، فإن الشعور الأولي هو "الاستسلام للموت"، لكن يوسف سرعان ما لجأ إلى أسلوب الضحك والكوميديا السوداء مع أطفاله وزوجته عند كل قصف أو سماع صوت حركة دبابة، فيقول ضاحكاً "إنه بعيد"، في محاولة منه لخلق مناخ يُخرجهم من دائرة التوتر والرعب المستمرين.
وأما الصحافي علاء سلامة الذي يتحدر من رفح، فيقول لـ"المدن" إن السخرية والضحك سيّدا الموقف بغزة، لغاية مواجهة التجويع أيضاً، وعند شراء سلعة كان سعرها قبل الحرب لا يتجاوز الدولار، فأصبحت الآن 40 دولاراً. وأضاف سلامة أن الكوميديا السوداء تتجلى بالنسبة له عند مقارنة تفاصيل غزة بين الماضي والحاضر.. ما قبل الحرب وما بعدها.
نكات على حواجز الضفة
ورغم البروز اللافت للكوميديا السوداء في خضم الحرب على غزة، إلا أنها أداة ليست وليدة اللحظة، فقد اتبعها عموم الفلسطينيين في شتى أماكن تواجدهم لتفريغ ضغطهم وقهرهم من قمع الاحتلال على مر عقود من المواجهة، وأيضاً نكايةً به وتحدياً له. ففي الضفة الغربية، دأب الفلسطينيون على اختراع النكات والضحك للتغلب على معاناة الانتظار لساعات طويلة على حاجز إسرائيلي، علّهم بذلك يخففون ضغطهم النفسي جراء قهر يومي وواقع مرير لا ينتهي.
لكن الكوميديا السوداء والسخرية عند الحاجز أو خلال اقتحام قوات الاحتلال منازل الفلسطينيين بمناطق الضفة، محفوفة بمخاطرة كبيرة، خصوصاً بعد 7 أكتوبر 2023؛ كونه سلوكاً يمثل تحدياً واستفزازاً لجنود الاحتلال على نحو يُمكن أن يتخذوه ذريعة كي يعدموا فلسطينياً أو ينهالوا عليه ضرباً وربما كي يعتقلوه؛ ذلك أن الاحتلال يريد فرض صورة رعب ويأس لدى الفلسطينيين أولاً وأخيراً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها