للمرة الألف تحل ذكرى 13 نيسان. يقولون أنها المرة الخمسون، لكن مُحال أن أصدق أن كل هذا الكلام المعلوك والمكرر والرتيب حول تذكر الحرب الأهلية عمره أقل من ألف عام. في 13 نيسان 1975، لم أكن قد ولدت بعد. أمي كانت حاملاً بأختي التي ولدت بعد ثلاثة أشهر من اشتعال الحرب، وولدتُ بعدها بثلاث سنوات تقريباً.
نحن المولودين خلال الحرب، أي مَن لم نسبب الحرب ولم نشارك فيها، كنا أكثر من تأثر بها. تأثُّرنا لم يكن خلالها، بل بعدها. جيل أهلنا هو الجيل الذي كان وقود الأحزاب التي شكلت أطرافها –المحلية على الأقل. ثم عند "انتهاء" الحرب، صاروا الجيل المحبَط، والذي عشنا معه... ويا محلا الحرب مقارنة بالعيش مع أهلٍ مُحبَطين... ما ذنب الطفولة، والمراهقة؟!
نحن الذين لم يتمكن أهلنا من الهرب بنا إلى قبرص أو فرنسا أو استراليا أو ألمانيا أو السعودية، فعشنا بأقل القليل من كل شيء، وحملنا معنا رغباتٍ في الكثير من كل شيء.
أثناء الحرب، لم نكن نفهم أنها أمر طارئ، أو أن هناك شكلاً للحياة لا تكون الحرب جزءاً منه، أو أن الحرب عكس الحياة. كنا نظن أن الحياة –التي أصلًا لم نكن نعرف معناها– لها صوت المَدافع والرصاص والصراخ، وأن الخوف من القناص هو من نسيجها، وأن التكهن إذا كان الصوت "من عنّا أو من عندن" هو من حزازير الطفولة وألعابها، كلعبة القتل على الهوية والأسلحة الخشبية. كنا نظن أن الانتظار في طوابير الخبز والماء هو مجرد وسيلة للتعارف ثم التواعد. الطابور كان "فايسبوك" الحرب. الحرب كانت "التقرير الطبي" للتخلف عن الذهاب إلى المدرسة.
كانت أمورنا جيدة قبل أن نعرف أن الحياة ممكنة في مكان آخر. أمورنا تدهورت عندما أخبرونا أن الحرب انتهت وأن تلك لم تكن الحياة فعلاً، ثم وُعدنا بالتعرف على شكل الحياة الأصلية، فاكتشفنا أن الحياة الأصلية أقل أصالةً من حياة الحرب.
أُفاجأ كل الوقت بقدرة الأصحاب والمعارف والأصدقاء على حفظ الحقائق المتعلقة بالحرب، وهؤلاء مثلي، ولدوا في بداية الحرب، أي لم يشاركوا فيها. لطنهم يحفظون الأحداث المحلية التي سبقتها، والإقليمية، التحالفات والجبهات، وأي حزب سيطر على أي محور. بعد الحرب صاروا في عُمر يسمح لهم بفهم ما حصل وحفظه.
أما أنا، فكنت أحاول جاهدة أن أذكر نفسي، أن سنة 1975 كانت السنة التي اشتعلت فيها شرارة الحرب الأهلية، وليس سنة الاجتياح الاسرائيلي. لا أتذكر شيئاً عن الحرب. لا أعرف عنها شيئاً. لا أحفظ أي تاريخ. عشت تلك الفترة وأذكر أنها كانت جيدة، بكل حربها. في الحرب، لم نكن نحكي عن الحرب ولم نكن نتذكرها. كنا نعيشها.
أما بعد الحرب، فمحاولات تذكرها المستمرة ومحاولات عدم تكرارها المستمرة، فيها الكثير من الزيف والسماجة. حتى اللحظة، الحرب بتشعباتها وثقافتها وطائفيتها وأحزابها ومحاورها ومفرداتها، تشكل المواد الأولية لكل طرائفنا و"نكاتنا الداخلية" الخاصة بجيل الحرب. استخدام بات مثيراً للغثيان. أضبط نفسي أحياناً متلبسةً بإلقاء بعض من ذاك المزاح وتلك النكات، مع شخصٍ بالكاد أعرفه، ولا تجمعني به الخلفية نفسها، فلا يفهم سياق استخدامي لها ولا يفهم أصلاً أنها نكتة. يربكني هذا الأمر وينبهني أن لكل فئة "نكاتها الداخلية" الخاصة بها، وأن مزاح فئتي ليس عابراً للفئات، ويؤكد لي انتهاء صلاحية مفردات تلك النكات وضحكاتها... "خلص ولك يا رولااااااا، ستوب، أنتِ أهضم من هيك والله! أوقفي هذا الاجترار. اقلبي الصفحة. انسحبي من المجموعة".
لا يمكن أن يكون عمر هذا الاجترار أقل من ألف ذكرى. الذكرى السنوية للحرب صارت برتابة الإعلانات التلفزيونية المكررة، أستغل فترة عرضها لدخول الحمّام، ريثما يعود بث المسلسل التافه الذي أتابعه.
كيف يمكن التخلص من عبارة "تنذكر تَما تنعاد"؟ كيف نبعد حروفها عن بعضها البعض، ونرمي كل حرف منها في كلمة أخرى، ثم عبارة أخرى، فتختفي هذه العبارة تماماً؟ عبارة صارت كليشيه، مثل مَسيرات الأمهات بين عين الرمانة والشياح، وكليشهات النكات على كليشيهات مَسيرات الأمهات بين عين الرمانة الشياح. كفى أمهات. كفى عناق أمهات. كفى نراً للأرزّ على الأمهات. الأرزّ للأكل فقط. كل كأس من الأرز تحتاج كأسَين من الماء. حقيقة علمية مثبتة من الأمهات. ولا رابط آخر بين الأمهات والأرزّ!
كيف نُبعد العَود الأبدي لنكات الحرب عن مسامعنا؟ كيف نخلص من مسرحية "شو منلبس؟"، وكل نكاتنا وحياتنا المستخدمة فيها، والمكررة حد الاهتراء؟ أوقفوا التصفيق لهذا العمل الأرشيفي الحكواتي النوستالجي.
لا بد لأحد ما أن يقول الحقيقة: أن المسرحية تخبر العارفين بتلك المرحلة وذاك الحزب وذاك الجنوب، ما يعرفونه وما عاشوه وقالوه وثرثروه، حنيناً، ونقداً في مرحلة لاحقة. أنها تعيد على مسامع جيل آخر ما يرددونه في جلساتهم استحضاراً لطفولة أو مراهقة ما، وما صار محط كلامٍ ونكاتٍ وانتقادٍ ساخرٍ. عمل يمكن تسميته: "دليلك للعائلة الجنوبية الشيوعية" لمن لا يعرف عنها شيئاً. سيجدها ابن العائلة الكتائبية مثلاً، مسرحية إكزوتيكية تعريفية عن "شريكه" في الوطن والحرب.
هل نحتاج فعلاً مَن يلقي على مسامعنا، ذكرياتنا ونكاتنا وأغانينا التي نسعى أصلاً للتخلص من تكرارها، ومن تكرار السخرية منها، ومن تكرار مزاحنا بشأنها؟ أراها كلها غير صالحة لإعادة التدوير، ومكانها الطبيعي سلة المهملات، لا المسرح.
كيف ننتهي من الفولوكلور السنوي لهذه الذكرى التي صارت كالدباديب الحمراء إذ تغزو واجهات المحالات في "فالانتاين" كل عام. تخيلوا مثلًا فولكلور المشي على خط التماس "القديم" مع مُرشد يعرفكم على موقع المتراس وربما شكله! فولكلور يتعامل معك على أنك "سويدي"!
تخيلوا كم مرة علينا أن نستمع بعد إلى شهادات المقاتلين السابقين، وكم مرة سنشاهد وجوه المقاتلين الحزبيين الذين صاروا مثقفين وفنانين، يتنقلون من فيلم وثائقي إلى آخر لعرض بطولاتهم السابقة، وندمهم اللاحق، ووجهات نظرهم حين كانوا مقاتلين مراهقين!
عشتُ الحرب 12 عاماً. كانت فترة جيدة. خالية من الكليشيهات والفولكلور. الملل على ضوء الشمعة، كان أصيلاً. الحب في انتظار ربطة الخبز، كان أصيلاً. والخوف كان أصيلاً. فترةٌ لا يزعجني تذكرها، بل أشتاق إليها أحياناً، وأعاود زيارتها كلما احتجت، ثم أعود، وتبقى هناك. ذكرى خالية من الكليشيهات والشعارات. أصالة صافية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها