الأحد 2025/04/13

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

اختبار العطش

الأحد 2025/04/13
اختبار العطش
"تسخير المطر" للفنان البريطاني المقيم في بيروت، توم يونغ
increase حجم الخط decrease
سينقضي نيسان ولم يسقط المطر الذي ننتظره بعد. قلائل توقّعوا هذا الموسم الكارثي، لأنّ المطر كان يعود كلّ سنة، قد يتأخّر أحياناً لكنّه لا يخلف الموعد. نحن من تلك الفئة من الشعوب التي لم تختبر العطش. إنّه ليس في قاموسنا أو مخيالنا أو أدبنا أو أمثلتنا الشعبيّة حتّى. شِعرنا يحفل بالارتواء والارتشاف والريّ والخضرة والمروج... غَزَلنا يقطر بالعصائر وحلاوة الثمار التي أخذت كلّ حاجتها من الماء العذب والندى. تولد أغانينا عند "نبع المي" وضفّة النهر والينابيع وعيون الماء العذبة... قصائدنا وقصصنا تحفل بالأشجار البعلية التي تكفيها مياه الأمطار وما يذوب من الثلوج ويُضخّ ماءً في السواقي والجداول، وبالكائنات الصغيرة الوديعة التي تكفيها ملليمترات من المياه لتروي عطشها وليس غالونات كالفيَلة والوعول وغيرها.

عرفنا كوارث ومآسي كثيرة في تاريخنا، ليس العطش بينها. قُرانا- التي صارت اليوم بلدات ومدناً- بُنيت حول عيون المياه. نحن أحفاد أولئك الذين حيث صادفوا عين ماء، استقرّوا وتكاثروا وأنجبونا، معتمدين في تربيتنا وتغذيتنا وتنظيفنا على آبار الجمع وأمطار الشتاء والربيع، حتّى أنّهم إذا أرادوا تخليد ذكرى ميت عزيز صنعوا على اسمه سبيل ماء، وهو من أكثر الصدقات الجارية شيوعاً. ونحن الذين أتينا إلى الحياة بعدما تلاقى أجدادنا بجدّاتنا وهنّ ذاهبات لملء الماء من العَين أو عائدات منها.

ورثنا عن أهلنا الامتنان للمطر والثقة في عطائه، ولم نتوقّع -رغم التحذيرات المناخيّة- العطش. نسبة الأمطار هذا العام هي نصف المعدّل السنويّ. التربة مهدّدة بالتصدّع تحت وطأة العطش. التربة ستعطش قبلنا، فليس بإمكانها أن تشتري "سيترنات ماء" أو تقترض ثلجاً من جبال صديقة. ليس المزارعون وحدهم مَن يراقبون نشرات الطقس وتطبيقاته ليعرفوا عن المطر المنتظر، كلّ اللبنانيين تقريباً يفعلون. كارثة شحّ المطر لا تتوقّف على المزارعين بل على الغالبية من الناس الذين يعرفون أنّ جيوبهم ستمتلئ بفواتير شراء ليترات الماء الارتوازية، وأن الصيف سيسجّل معدّل حرارة مرتفعاً ويفرض بدوره المزيد من الفواتير للتبريد والتكييف.

في الكثير من البلدات، خارج المدن، يباشر كلّ من ينوي بناء منزل إلى بناء بئر للمتساقطات يُسمّى "بئر جمع"، يسلّطون نحوه في الشتاء مياه الأمطار عن السطوح والشرفات، ويملأونه بمياه الدولة أو التي يشترونها بالسترنات في الصيف اذا اقتضت الحاجة. سواء كانوا مزارعين أم لا، لا يشعر الناس حولي بالأمان من دون بئر جَمع ومن دون شتاء ماطر. وهذا الشتاء كان كارثيّاً من حيث الأمطار. ورغم أنّ التهديدات حول الاحتباس الحراريّ والتصحّر ليست جديدة، إلّا أنّ أهلنا كانوا يستثنون بلداتهم من الأمر، وهي لم تحرمهم من مياه الأمطار موسماً إثر موسم. لكنّ هذا العام كان مشهوداً. دخلنا عصر التصحّر بأقدام مرتعدة وعيون قلقة. انتظرنا "شباط اللبّاط" فأتانا بعاصفة ثلجيّة قصيرة لم يلحق بها مطر. "شباط اللبّاط" الشهير بأمطاره، خذَلنا. ثمّ تفاءلنا بآذار الذي نقول عنه "إذا ما شتّت بآذار ما بينتلي ولا بيار" (لا يمتلئ أي بئر).

هذا الشتاء، لم يُستوفَ الشرط. لم تمطر في آذار. ثمّ بقي لنا أمل أخير في المثل الشهير "ميّة نيسان بتحيي الإنسان". صحيح أن عجائز قريتي كانوا يضعون الأكواب المعدنيّة والنحاسيّة عند حافّة النوافذ لتمتلئ بمياه المطر فيشربونها إيماناً بأنّها ستطيل أعمارهم، لكنّ الفئة الأكثر ثقافة تعرف أنّ هطول المياه في نيسان يطيل أمد الربيع وخضرة الأشجار المثمرة والأعشاب البرّية والمزروعات، وليس لشرب مياه نيسان ميزة عن مياه غيره من الشهور.

خذَلتنا الأمثلة الشعبيّة. ستصير فولكلوراً يبعث على الحسرة وليس الأمل، كما كانت دائماً. العجائز الذين يشربون مياه أمطار نيسان، ماتوا كلّهم. الجيل التالي لا يملك حتّى أكواب المعدن والنحاس تلك. والجيل الذي يليه لا يعرف تلك الأمثال التي كانت مُتوارثة، يتابع تطبيقات الطقس والتوقّعات، لكنّها لا تروي عطشه.

في مطلع القرن الحادي والعشرين، طال موسم الشتاء وأمطرت طوال الربيع. طافت آبار الجمع فوجّه أصحابها الماء نحو الشوارع ومنها إلى البحر. فرح أنصار البرد لأنّ الصيف سيتأخّر وسيكون أقلّ قسوة، وتباهوا بغزارة المطر أمام أنصار الصيف والدفء. بقيت خضرة المروج والحقول فترة أطول، لكن افتقارنا للسدود ومشاريع تخزين مياه الأمطار وغيرها لطالما ترك حسرة عند من يتفكّر. إقامة السدود اقتصرت على أن تكون عنواناً في "منهبة الفساد" في البلاد. باسم تلك السدود، نهَبت السلطةُ شعبَها والبنوكَ الدولية وسُحُب السماء وجوف الأرض.

هناك من غنّى للمطر والنبع، وهناك من نصب باسمهما. غالبية مياه الأمطار كانت تنتهي في البحر، ترافقها مياه الصرف الصحّي. الوهم بأنّنا بلاد لا تعطش انتهى في الصرف الصحّي أيضاً. أزمة الزراعة والموارد المائيّة تعصف بالبيئات السكّانيّة الهشّة، تُصدّع أُسسَها وبنيانها كما تُصدّع التربةَ والقشرةَ الأرضيّة الرقيقة التي ندبّ فوقها، والتي لطالما تباهينا بصلابتها عبر خبطات أقدامنا القويّة ونحن نرقص الدبكة، رقصتنا الفولكلورية الأثيرة. يعلو الراقصون في الهواء ويهبطون على الأرض بقوّة أقدامهم ويهزّون أكتافهم طرباً لارتجاع صدى خبطاتهم. تتمايل البنات الراقصات وارثاتٍ مشية نقل المياه العذبة من العيون والينابيع، المشية التي تتطلّب التوازن والرشاقة والدلال.

صمَدت تلك المشية المتهادية في جيناتنا عبر الزمن بفضل الجغرافيا والمناخ اللذين أغدقا علينا الموارد المائية. والآن تخطو فوق عتبة الأفول. الياسمين والفلّ والدرّاق واللوز وكلّ ما يُستعار لوصف جمال بناتنا، بات مهدّداً بالجفاف. الأرز والصنوبر والسنديان والصفصاف التي تتشبّه بها قامات راقصينا ورجالنا، مهدّدة أيضاً بالزوال. العطش آت. تجربة قاسية تتصدّع لها القشرة الأرضية، فكيف بجلودنا وحناجرنا وآبارنا وما تبقّى من عذوبة لم نستحقّها...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها