السبت 2025/04/12

آخر تحديث: 17:19 (بيروت)

"صلة" تفتح نافذة أمل للناجين من سجون الأسد

السبت 2025/04/12
"صلة" تفتح نافذة أمل للناجين من سجون الأسد
increase حجم الخط decrease
لم يكن خروج المعتقلين من سجون الأسد بعد سقوط النظام في ٨ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤ نهاية القصة، بل بدايتها، فما إن فتحت أبواب الزنازين حتى خرجت منها عشرات الآلاف من الجراح الصامتة والتائهة بين صدمات نفسية معقدة وأجساد أنهكها التعذيب والإهمال الطبي.

ووسط هذا الواقع، ولدت مبادرة "صلة" كاستجابة طبيعية لحاجة طارئة، لا تتعلق فقط بترميم ما كسر، بل بإعادة بناء الرابط بين الإنسان وحياته، لتقديم الدعم النفسي والطبي للمعتقلين المحررين، بالاعتماد على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مع المحررين وربطهم بالأطباء والمختصين.

وتأسس المشروع فعلياً نهاية العام 2024، من خلال شراكة أولى مع "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، وتم إطلاق استبيان في بداية العام 2025 لتقييم الاحتياجات الطبية للمعتقلين الموثقين في دمشق وريفها. وتخدم "صلة" حالياً 114 مريضاً موزعين بين دمشق وريفها، وبعض الحالات في القنيطرة ودرعا.

وفي بلد يعيش فيه نحو 90% من السكان صدمات نفسية متفاوتة، وحيث يعاني أكثر من 15 مليون شخص من الاحتياج إلى الرعاية الصحية، تبدو مبادرة "صلة" قطرة في بحر الحاجة، لكنها قطرة تنبض بالحياة. فبحسب دراسة نشرت في مجلة "لانسيت"، فإن أقل من 11% فقط من السوريين لم يُظهروا أعراضاً نفسية خلال الحرب، فيما يعاني قرابة ربع السكان من اضطراب ما بعد الصدمة، ونسبة مشابهة من الاكتئاب.

من جهة أخرى، لم يكن النظام الصحي السوري قادراً على التعامل مع هذه الكارثة، حيث دمرت أكثر من نصف المستشفيات، وغادر البلاد ما يقارب 70% من الطواقم الطبية. وبعد سقوط النظام أواخر 2024، ما زالت أقل من 60% من المستشفيات تعمل، ويعتمد ثلاثة من كل أربعة سوريين على المساعدات الطبية.

وقالت الطبيبة النفسية ماسة المعري، وهي من مؤسسي "صلة": "ما عشناه بعد التحرير كان صادماً، ليس فقط على المستوى المهني، بل الإنساني أيضاً. كنا نستقبل في مشفى ابن رشد حالات من معتقلين محررين لا يعرفون أسماءهم، لا يتذكرون وجوه عائلاتهم، وبعضهم في حالة إنكار كامل للواقع، أمام هذا العجز، لم نستطع أن نقف متفرجين، كان لا بد من التحرك".

وبعد فتح السجون منذ بداية عملية "ردع العدوان" وحتى الإعلان عن سقوط النظام في ٨ كانون الأول/ديسبمر، أفرج عن أكثر من 31 ألف معتقل سياسي  بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، لكن كثيراً من هؤلاء خرجوا بأجساد منخورة وأرواح متكسرة، في المقابل، مازال مصير أكثر من 100 ألف شخص مجهولاً، ما يترك أثراً نفسياً إضافياً على ذويهم.

وركزت مبادرة "صلة" في البداية على الطب النفسي، فهو اختصاص المؤسسين للمبادرة، لكن سرعان ما أدركوا أن الأمر أكبر من ذلك، فالمحررين بحاجة ليس فقط إلى دعم نفسي، بل إلى رعاية طبية متكاملة، وأوضحت المعري: "أجسادهم منهكة، وأمراضهم ناتجة عن سنوات من التعذيب وسوء التغذية، ولأن القطاع الصحي الرسمي غير قادر على الاستجابة، قررنا إطلاق المبادرة كجهد جماعي تطوعي لتأمين الرعاية الصحية الجسدية والنفسية لهؤلاء الناجين".

وحول آلية عمل المبادرة، وكيفية اختيار والوصول إلى المحررين المحتاجين قالت المعري: "لدينا آلية عمل واضحة، حيث يتم تحويل المرضى من الرابطة بعد التأكد من أنهم محررون وليسوا أصحاب قضايا جنائية"، وأضافت: "لدينا ستة أطباء مسؤولين عن تقييم الحالات وتوجيهها حسب التخصص، وكل مريض يُتابع من قبل طبيب يشرف على ملفه بشكل مباشر. في المتوسط، يحتاج كل مريض إلى أربع استشارات طبية من اختصاصات مختلفة، يتبعها تأمين التحاليل والأدوية والصور اللازمة".

ويضم الفريق الأساسي 14 عضواً، ويعمل إلى جانبهم 18 طبيباً متعاوناً و4 معالجين نفسيين. وبعد نشر استبيان إلكتروني لدعوة الأطباء للمشاركة، انضم إلى المبادرة 73 متطوعاً من مختلف المحافظات، من بينهم أطباء أسنان، ممرضون، ومعالجون فيزيائيون ونفسيون. وحتى الآن، لا تمتلك المبادرة مكتباً رسمياً، بانتظار الحصول على الترخيص اللازم. إلا أن ماتحتاجه مايحتاجه السوريون في هذه الفترة يفوق هذه الاعداد بشكل كبير.

وحول سبل دعم هذه المبادرة أفادت المعري:"نحن لا نتلقى أي دعم مالي رسمي بعد، وكل ما نقوم به يتم بتمويل من صندوق صغير يدعمه أصدقاء وأقارب الفريق. هذا الصندوق يغطي التحاليل البسيطة، الأدوية، وبدل المواصلات لبعض المرضى. رغم الإمكانيات المحدودة، استطعنا تنفيذ أكثر من 100 استشارة طبية، و24 جلسة دعم نفسي، و13 تحليل مخبري، بالإضافة إلى عملية جراحية، و20 صورة شعاعية، و40 وصفة طبية، ودعم إنساني مباشر لـ25 حالة".

ومع بداية شهر رمضان،  نظمت "صلة" إفطاراً جماعياً لـ70 محرراً مع عائلاتهم، بالشراكة مع الرابطة وجمعية "المساعدة السورية – إرادتي"، حضره نحو 300 شخص، مع تغطية نفقات النقل للجميع. وأشارت المعري إلى أن المبادرة تلجأ إلى مؤسسات داعمة للحالات التي تتطلب علاجاً مكلفاً: "بالتعاون مع شركائنا، تمكنا من تغطية 8 صور طبقية، 10 تحاليل متقدمة، 5 نظارات طبية، 3 وصفات أدوية نوعية، 2 عكازات، 4 مشدات ظهر، بالإضافة إلى 35 استشارة سنية، وبدء علاج لعشر حالات. كما أجرينا عمليتي قثطرة قلبية بالتعاون مع فريق ملهم التطوعي".

ويتركز عمل المنظمة حالياً في المنطقة الجنوبية من سوريا، لكن طموحات "صلة" تتجاوز الجغرافيا. وبحسب المعري: "نحن نعمل حالياً على التنسيق مع فريق في حمص، ونهدف إلى تغطية كافة المحافظات السورية عبر بناء شبكة متطوعين، والحصول على تمويل مستدام من جهات مانحة ومؤسسات شريكة وتبرعات فردية".

وبحسب إحصائيات طبية، فإن مناطق مثل شمال غرب سوريا، لم يكن هناك سوى طبيبان نفسيان فقط لخدمة أكثر من أربعة ملايين نسمة حتى العام 2023، ما يعني أن أغلب المتضررين من الصدمات النفسية لم يتلقوا أي دعم متخصص. ومن هنا، تبرز أهمية كل مبادرة مهما كانت صغيرة، مثل "صلة".

ولا يتوقف طموح المبادرة عند تقديم العلاج، بل يشمل تمكين الناجين وإعادة إدماجهم في المجتمع، وأوضحت المعري"هدفنا ليس فقط الشفاء الجسدي أو النفسي، بل مساعدة هؤلاء الأشخاص على استعادة حياتهم. نعمل على تطوير مشاريع تمكينية للمحررين، تتيح لهم بناء مستقبل جديد، بكرامة واستقلالية".

وبحسب "تقرير السعادة العالمي" فإن سوريا كانت ولسنوات في أدنى مراتب مؤشر السعادة، بدرجات تراوحت بين 3.0 إلى 3.4 من أصل 10، واحتلت المركز 156 عالمياً في عدة تقارير. كما كانت من أقل الشعوب تسجيلاً للمشاعر الإيجابية، بحسب استطلاعات "معهد غالوب".

وهنا، تحاول "صلة" أن تملأ فراغاً كبيراً بموارد بسيطة، وجهد تطوعي منظم، وإيمان بأن التعافي الجماعي يبدأ من الإنسان، من جسده وروحه، من كسر عزلته، ومن تذكيره بأنه ليس وحده. لكن جهود المنظمة تمثل استجابة محدودة مقارنة بحجم الحاجة الوطنية، وهو نموذج يمكن البناء عليه في مرحلة التعافي المقبلة والخطوة الأولى لإعادة بناء الثقة، ليس فقط في المنظومة الصحية، بل في إمكانية الشفاء الوطني الجماعي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها