ورغم ذلك، تبدو القرية المستهدفة وكأنها مجرد بقعة غامضة في الخلفية، فلا نعرف من يقصفها ولماذا، كما أن عدد المنازل في المَشاهد محدود جداً، ما يجعل يثير تساؤلاً: مَن يقصف هناك؟ ولماذا؟ وما الذي يجري فعلاً في الجهة الأخرى؟ وكأن المسلسل يقدم الرواية الرسمية للأحداث السورية حيث تغيب روايات الأشخاص الذين يتعرضون فعلياً لقصف النظام السوري، وتصبح القصة الحقيقية التي يمكن أن توصف بالسوداوية، أي القرية المقصوفة، قصة جانبية تشكل الخلفية للبؤس المفترض في القرية.
ووسط العالم المشحون بالسوداوية، تبدو غالبية الشخصيات إما مبالغاً في مثاليتها أو مسطحة بشكل كارتوني، إلا أن صاحبة صالون التجميل تشكل استثناءً نادراً، فما زالت تهتم بنفسها، وترتدي الكعب العالي، وتضع مساحيق التجميل ولا تنسى تسريح شعرها. رغم قلة مَشاهدها، إلا أنها الشخصية الوحيدة التي تبدو واقعية، متصالحة مع قسوة الحياة، قادرة على التأقلم مع الظروف بدلاً من الاستسلام للمأساة المطلقة. وفي أحد المشاهد، تلخص فلسفتها في الحياة بجملة مباشرة: "إذا كنت تريد أن تعيش بسلام، فتجاهل كل ما يحدث حولك".
ولا يمكن تحديد الحبكة الأساسية التي يدور حولها المسلسل، إذ يقتصر السرد على تصوير الحياة الاجتماعية المتهالكة، وانعدام الخدمات، والفقر المدقع في القرية، وهي أمور باتت واضحة منذ الحلقة الأولى. أما التفاصيل الأخرى، مثل العلاقات الاجتماعية أو قصص الحب، فتبدو هامشية تماماً أمام هذا الواقع المأسوي، وكأنها لا تملك أي وزن درامي حقيقي.
أما الحرب، فتبقى مجرد خلفية باهتة للأحداث، لا تشكل محوراً رئيسياً في السرد، وكأن الشخصيات لم تعد تكترث لها، بعدما غمرها الفقر والمآسي اليومية. هذا التغييب المتعمد للصراع العسكري يتماهى مع النهج الذي سعى النظام السوري إلى ترسيخه على مدار السنوات الـ14 الماضية، حيث أغرق الشعب في البؤس والفقر، ليس فقط كنتيجة للحرب، بل كأداة عقاب وإذلال لمن تجرأ على الثورة ضده.
وربما يكون المشهد الأكثر تعبيراً عن واقع القرية وشعور أهلها هو لتجمّع تلامذة المدرسة في الباحة، يقفون في صفوف منتظمة ويرددون بصوت رتيب شعارات الصباح: "أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، أهدافنا: وحدة، حرية، اشتراكية". بينما يقف المعلمون في الشرفة المقابلة، يراقبون المشهد بعيون يملأها البؤس، وكأنهم يتمنون الاختفاء، وكأن الشعارات التي تُردد منذ عقود لم تعد تعني شيئاً في واقع يغرق في الفقر وانعدام الأمل.
لكن اللحظة الدرامية الأهم تأتي عندما يسمع التلاميذ أن شاحنة مساعدات من الهلال الأحمر وصلت إلى القرية، فيتلاشى فجأة كل النظام والانضباط، وتترك الشعارات خلفهم بلا اكتراث، ويهرعون مسرعين خلف الشاحنة، وكأنها الأمل الوحيد الذي تبقى لهم، في رسالة واضحة لم تُلفَظ حرفياً "تسقط الشعارات".
ورغم أن أهل القرية يعيشون تحت سلطة الدولة، إلا أن هذه السلطة فقدت هيبتها تماماً، ولم يعد هناك خوف حقيقي من الدولة، بل فقدت قدرتها على الإقناع والتأثير، فرجل الدولة الوحيد في القرية، الذي يفترض أن يكون ممثل النظام، يبدو أقرب إلى مهرج، وجوده عبثي ولا يحترمه أحد أو يأخذ خطابه على محمل الجد، ليصبح مجرد ظل باهت لنظام بأدوات بالية، وسزلطته قائمة فقط على وَهم القوة، في مجتمع أنهكته الحرب وأفقدته حتى الرغبة في المواجهة ويصبح البطل (بسام كوسا) الشخص الوحيد المؤثر، لأنه يمثل "الإنسانية" في العمل ككل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها