قبل نحو ستة أشهر، نشر العراقي محمد عماد آخر مقطع فيديو في "تيك توك" حيث ظهر في زيّ عسكري مبتسماً وسط حقل في أوكرانيا على الأرجح يتصاعد منه دخان، وأرفقه بكلمة "دعاؤكم" مع علم روسيا.
ومنذ ذلك الحين، فقدت عائلة محمد الاتصال به، وسمعت روايات متناقضة عن مصيره: تم أسره، أصيب بجروح، عانى من إنفلونزا. وحتى قتل بضربة مسيرة أوكرانية في الحرب المستمرة منذ شباط/فبراير 2022 والتي أوقعت مئات الآلاف من القتلى، حسبما نقلت وكالة "فرانس برس".
وعلى غرار شبان عراقيين آخرين يقاتلون حالياً في أوكرانيا بعدما أغرتهم وعود برواتب مرتفعة وجوازات سفر روسية، سافر محمد (24 عاماً) إلى روسيا من دون علم أسرته، للانضمام إلى جيشها والقتال في أوكرانيا، حسبما روت والدته زينب جبار (54 عاماً)) بصوت مرتجف وعينين مغرورقتين بالدموع: "ذهب ولم يعد".
وأضافت جبار من منزلها في مدينة المسيب الواقعة جنوبي بغداد، حاملة صورة ابنها: "نحن العراقيين شهدنا حروباً كثيرة وتعبنا". وسألت بمرارة: "ما علاقتنا بروسيا؟ ما علاقتنا بدولتين تتحاربان؟"، علماً أنه حين غزت الولايات المتحدة العراق العام 2003 وأطاحت حكم صدام حسين، كان محمد طفلاً صغيراً. وشهدت بلاده بعدها موجات من انعدام الاستقرار، وسنوات من الاقتتال الطائفي، تلتها سيطرة تنظيم "داعش" على مساحات واسعة من البلاد بين العامين 2014 و2017.
وألقت الأزمات بثقلها على العراقيين، خصوصاً الشباب الذين استدعى العديد منهم إلى الجيش أو انضموا إلى فصائل حاربت "داعش" في العراق، أو قاتلت في سوريا المجاورة دعماً لقوات الرئيس المخلوع بشار الأسد خلال سنوات النزاع. وفي بلد كل شاب (بين 15 و24 عاماً) من إجمالي ثلاثة، عاطل فيه عن العمل، وينخر الفساد مؤسساته، توصلت "فرانس برس" الى أن شباناً عديدين أغرتهم عروض سخية بالنسبة إلهم مقابل القتال لصالح روسيا، يروج لها مؤثرون في مواقع التواصل الاجتماعي.
وتتضمن العروض راتباً شهرياً قدره 2800 دولار، ما يعادل نحو أربعة أضعاف ما يمكن أن يتقاضوه في صفوف الجيش العراقي، إضافة الى مكافأة عند توقيع العقد تصل قيمتها الى 20 ألف دولار. وتواصلت "فرانس برس" مع أقارب أربعة شبان من عائلات فقيرة سافروا للانضمام إلى الجيش الروسي، ثلاثة منهم في عداد المفقودين. أما الرابع فعاد إلى عائلته جثة.
وتحدثت الوكالة الى شاب عراقي يعمل تحت راية الجيش الروسي، وينشر تجربته بتفاصيلها عبر الإنترنت ويقدم مساعدة للراغبين بالانضمام إليه. وكتب في أحد منشوراته: "تحت شعار أعطني جندياً عراقياً وسلاحاً روسياً وسوف نحرر العالم من الاستعمار والاستكبار الغربي"، حسب تعبيره!
وتعج تطبيقات التواصل الاجتماعي في العراق، مثل "تيك توك" و"تيلغرام"، بحسابات تعرض المساعدة على الشباب الراغبين بالانضمام إلى القوات الروسية. وعند بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه يعتزم تجنيد 16 ألف مقاتل من الشرق الأوسط. وأفادت تقارير بأن نحو ألفي جندي سوري نظامي توجهوا إلى روسيا في ذلك الوقت للقتال.
وتسعى قنوات "تيلغرام" التي تقدم العروض اليوم الى استقطاب شريحة ديموغرافية شابة ومختلفة. ويعرض المشرفون على تلك القنوات مساعدة للحصول على تأشيرات روسية لشباب عرب، ويتلقون أسئلة وطلبات من سوريا ومصر والجزائر ودول أخرى. واستخدمت أساليب مماثلة لتجنيد شبان من آسيا الوسطى ومن الهند وبنغلادش والنيبال، أيضاً.
وتنشر الحسابات التي تروج للتجنيد لائحة بالمصطلحات العسكرية الرئيسية مترجمة إلى الروسية، بينها "نفدت الذخيرة" و"أنجزت المهمة" و"لدينا ضحايا" و"طائرة مسيرة مفخخة" لتسهيل التواصل على المجندين متى وصلوا الى الميدان. وأورد أحد حسابات "تيلغرام" أنه يوفر كذلك مساعدات للعراقيين الراغبين بإرسال المال إلى بلدهم.
واتصلت "فرانس برس" برقم شاركته القناة. فأجاب متلقي الاتصال بأن كل ما يلزم هو نسخة عن جواز السفر وعنوان سكن ورقم هاتف، على أن يرسل لاحقاً دعوة للحصول على تأشيرة ومن ثم تغطية كلفة التذكرة. لكن بين التعليقات الواردة على مقاطع الفيديو الترويجية، يمكن معاينة تساؤلات من عائلات تبحث عن أبنائها المفقودين.
وتعتقد عائلة محمد أن الدعاية عبر شبكات التواصل الاجتماعي أغرت ابنها بالسفر إلى روسيا في وقت سابق من العام الجاري. وعلى مدى أسابيع، ظهر محمد في مقاطع فيديو نشرها عبر "تيك توك" من روسيا. وتمكنت "فرانس برس" من تحديد موقعه في أحد المقاطع المصورة في منطقة أوريول القريبة من الحدود مع أوكرانيا، ومنطقة كورسك حيث توغلت القوات الأوكرانية في روسيا لمدة ستة أشهر. ونشر آخر فيديو له في "تيك توك" في 12 أيار/مايو.
وروت والدته كيف اتصلت به متوسلة لكي يعود إلى المنزل. كانت تظن في بادئ الأمر أنه يعمل في مخبز في محافظة البصرة في جنوب العراق، لكنه في الحقيقة "ذهب ليقاتل في حرب روسيا وأوكرانيا". وأوضحت: "قال لي لدي حرب. ادعي لي". وكانت تلك المكالمة الأخيرة بينهما. وقالت الأم بحزن شديد، "أريد أن يأتوا لي بابني. لا أريد أي شيء آخر. أريد أن أعرف إن كان حياً أم ميتاً".
وتقضي فاتن، شقيقة محمد، ساعات لا تحصى في مواقع التواصل الاجتماعي، في محاولة لاقتفاء أثر عراقيين يدعون أنهم التحقوا بالجيش الروسي، لعلها تعلم شيئاً عن مصيرهم. وشرحت كيف سمعت روايات مختلفة عن مصير شقيقها من حسابات مختلفة، أكثرها قسوة كان من حساب تابع للشاب عباس حمدالله الذي يستخدم اسم عباس المناصر في مواقع التواصل الاجتماعي.
وعباس (27 عاماً) في عداد شبان عراقيين يشاركون تجاربهم في الجيش الروسي عبر "تيك توك" و"تيلغرام". ويعرض المساعدة للراغبين بالالتحاق. ويبدو أن مشورات عباس استمالت محمد. وقال لـ"فرانس برس" أن الأخير طلب منه توجيهه وكان مصمماً على السير على خطاه.
وحلت معلومات عباس كالصاعقة على فاتن، بعدما أخبرها أن جثة أخيها موضوعة في مشرحة تابعة للجيش الروسي، بعد مقتله بضربة من مسيرة أوكرانية قرب باخموت. وبحسب عباس، فإن شقيقها أطلق النار على المسيرة فيما كان مقاتلون آخرون برفقته يختبئون. وقالت فاتن: "إذا كان ميتاً، نريد جثته"، بينما يعتريها القلق من ألا تحصل العائلة على جثته لدفنه أو تتبلغ رسمياً ماذا حدث له. وأوضحت: "لا يتعلق الأمر بأخي فحسب، إنما كثيرون آخرون مثله. مؤسف أن يموت كل هؤلاء الشباب في روسيا".
وفي مدينة الناصرية في جنوب العراق، قال عبد الحسين مطلق (74 عاماً) أن ابنه علاوي سافر برفقة محمد الى روسيا، وبقي على تواصل مع عائلته، يرسل لهم صوراً من التدريبات العسكرية إلى أن انقطع عنهم تماماً في 5 أيار/مايو. وقال الوالد: "لا نفهم ماذا حصل. قلت له: لن تستفيد، إنها منطقة غريبة وأناسها غرباء". لكن علاوي أصر على إنهاء العقد مع الجيش الروسي.
وفي أحد الفيديوهات التي أرسلها علاوي لعائلته، ظهر مع ثلاثة أشخاص آخرين بينهم محمد وهو يتوجه بالشكر لعباس المناصر لمساعدتهم على الوصول الى روسيا. والعام 2023، سافر عباس إلى موسكو عازماً، على حد قوله، مواصلة رحلته إلى أوروبا، على غرار آلاف من المهاجرين العراقيين. لكن الإعلانات المنتشرة في شوارع روسيا والداعية للانضمام إلى الجيش، أغرته بالبقاء.
وأوضح عباس: "لا مستقبل لنا في العراق. حاولت بكل السبل هناك لكنني لم أنجح. بالنسبة الي، لا يتعلق الأمر بروسيا أو بأوكرانيا. أولويتي هي عائلتي". وشرح أنه انضم إلى جيش روسيا العام 2024 وبات اليوم يحمل جواز سفرها. ورغم الصعوبات التي يواجهها، أبدى سعادته لقدرته على إرسال "نحو 2500 دولار شهرياً" الى عائلته، وهو مبلغ بعيد المنال بالنسبة الى غالبية الشباب العراقيين.
وعبر حسابه في "تيلغرام"، ينشر عباس دعوات للحصول على تأشيرات للراغبين في التجنيد. وقال أن تكلفة التأشيرة تصل إلى ألف دولار، تحصل وكالات السفر على الجزء الأكبر منه. وبحسب موقع السفارة الروسية في العراق، تصل كلفة تأشيرة الدخول لمرة واحدة الى 140 دولاراً.
وقال عباس أنه لا يتقاضى أي أتعاب مقابل خدماته، لكنه يحذر من "سماسرة" يستغلون الشبان العراقيين ويأخذون نسبة من المكافأة التي يحصل عليها المجند عند توقيع العقد. ولم تتمكن "فرانس برس" من التحقق من صحة أقواله، لكن بغض النظر عن قيمة المكافأة المالية، شرح عباس أنه يحذر الراغبين بالتجنيد من أن "احتمال الموت هنا" قائم. وتابع: "شهدنا حروباً وأزمات عديدة في العراق، لكن هذه الحرب مختلفة. إنها حرب التكنولوجيا المتقدمة، حرب الطائرات المسيرة". ورغم ذلك، أكد أنه لا يشعر بأي ندم إزاء خياره، حتى أنه وقع عقداً جديداً مع القوات الروسية لعام إضافي.
ومنذ بدء الحرب، انضم الآلاف من المقاتلين الأجانب إلى القوات الروسية في أوكرانيا، المجموعة الأكبر منهم من كوريا الشمالية. وأفادت تقارير بأن متطوعين صينيين يقاتلون كذلك إلى جانب القوات الروسية. وفي الجهة المقابلة من الجبهة، يقاتل نحو 3500 مقاتل أجنبي الى جانب الجيش الأوكراني ويتقاضون الرواتب نفسها كالجنود المحليين، حسبما أفادت سفارة أوكرانيا في العراق.
وتتفاوت التقديرات بشأن عدد العراقيين الذين يقاتلون لصالح روسيا، لكن عددهم بالتأكيد بالمئات. وقال السفير الأوكراني لدى العراق إيفان دوفغانيتش أن هؤلاء "لا يقاتلون من أجل فكرة، إنما يبحثون عن فرصة عمل". ولم ترد السفارة الروسية في بغداد على طلبات للتعليق، لكن روسيا ليست الدولة الأولى التي جذبت عراقيين للقتال في الخارج، حيث انضم كثر خلال النزاع الذي شهدته سوريا منذ 2011 إلى فصائل عراقية موالية لإيران قاتلت في مناطق سورية عدة دعماً لحكم الأسد. لكن الدافع لم يكن مادياً، بل حصل ذلك بموجب قرار سياسي من جهات تدور في فلك طهران، أبرز حلفاء الأسد آنذاك. كما اعتبر العديدون القتال "واجباً دينياً" من أجل حماية المراقد الشيعية في سوريا.
والعلاقات بين روسيا والعراق جيدة إجمالاً. وسبق لموسكو أن زودت نظام صدام حسين خلال عقود بأسلحة وتدريب عسكري. ولطالما حرصت بغداد على تأكيد موقفها "الثابت بالحياد" إزاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، مشددة على رفضها أن يقاتل شبابها في صفوف الجيش الروسي.
وفي أيلول/سبتمبر الماضي، أصدرت محكمة جنايات النجف حكماً بالسجن المؤبد بحق مدان بـ"جريمة الاتجار بالبشر"، متهمة اياه بأنه "أقدم بالاشتراك مع متهمين آخرين على تكوين جماعات وإرسالها للقتال في دول أجنبية لقاء مبالغ مالية". وقال مصدر أمني لـ"فرانس برس" أن الدولة المقصودة هي روسيا.
وحذرت السفارة العراقية في موسكو مطلع الشهر ذاته من "محاولات استدراج أو توريط بعض العراقيين المقيمين في روسيا أو خارجها بذرائع مختلفة للمشاركة في الحرب". ويعتبر كثر في العراق الملتحقين بالجيش الروسي "مرتزقة". وقال عم أحد العراقيين المفقودين في روسيا منذ أشهر أنه يأمل أن تعاقب الحكومة العراقية أولئك الذين يستدرجون الشباب إلى روسيا.
ويعتبر القتال كمرتزقة "وصمة عار" في العراق، الى حد أن عائلة مجند قتل في روسيا غادرت مسقط رأسها في جنوب البلاد، خجلاً من مواجهة المجتمع. وروى أحد أنسباء العائلة كيف أنها دفنت ابنها، بعيد تسلمها جثته، تحت جنح الظلام من دون حضور أي من الأقارب. وتسلمت العائلة تعويضاً مالياً بقيمة أكثر من 10 آلاف دولار مع الجثة، على حد قوله، لكن كثيرين في المجتمع المحلي اعتبروا أن الشاب أساء بفعلته إلى مجتمعه. وأضاف الرجل طالباً عدم الكشف عن هويته: "يحترق قلبي من فكرة أن يموت شاب في الخارج ومن ثم يدفن هنا بالسر".
