في زمن تتداخل فيه التكنولوجيا بالحياة اليومية، وتغدو فيه الهواتف امتداداً للذاكرة والوعي، صار الأمان الرقمي وهماً يراود كثيراً من المستخدمين من ناحية الظن أن تحميل تطبيق "آمن" أو تفعيل ميزة التشفير يعني حمايتهم تماماً لكن الحقيقة أكثر تعقيداً: لا شيء يحمي المستخدم من نفسه إذا غاب الوعي، خصوصاً في منطقة مثل الشرق الأوسط حيث تتعقد علاقة التكنولوجيا بالسلطة وتغيب القوانين التي تحمي الأفراد.
هذا ما أكده الخبير في الأمن الرقمي عبدالرحمن العزي، خلال ورشة ناقشت العلاقة بين التشفير والسلوك البشري، ضمن ملتقى "خبز ونت" الذي نظمته منظمة "سمكس" المتخصصة في الحقوق الرقمية في بيروت، موضحاً أن المشكلة ليست في الأدوات بل في طريقة استخدامها. لأن التشفير، مهما بلغ من تعقيد، لا يمنع المستخدم من إرسال ملف عبر خدمة غير آمنة، أو من إظهار الإشعارات الحساسة على شاشة هاتفه المقفلة.
تلك الفكرة تعكس مأزقاً أعمق في علاقة الأفراد بالتكنولوجيا: فهم من جهة يطالبونها بحمايتهم من العالم، رغم أنها في كثير من الأحيان أصبحت وسيلة لمراقبتهم. والمنصات التي يثق فيها الأفراد تعيد تعريف الحدود بين الخاص والعام، وبين السري والعلني، فيما صارت الخصوصية نفسها مفهوماً ضبابياً، علماً أن نقاشات "خبر ونت" هذا العام لم تكتف بالحديث عن التكنولوجيا بوصفها أدوات اتصال، بل تناولتها كقوة سياسية واجتماعية تتحكم في المعلومات والوعي العام.
والجلسة التي تحدث فيها العزي حملت عنوان "مشفر لكنه مكشوف: التشفير وحده لا يحميك"، وركزت على الفرق بين الخصوصية والأمان الرقمي، وهما مفهومان يختلطان على المستخدمين غالباً، ما يجعلهم يثقون عشوائياً في تطبيقات المراسلة المشفرة من دون إدراك حدودها الفعلية. وأوضح العزي أن كثيرين يفترضون أن استخدام تطبيقات مشفرة كلياً يعني ضمان الخصوصية، إلا أن التشفير، وإن كان أداة قوية لحماية البيانات، لا يمنع تسريب المعلومات الناتج عن سلوكيات المستخدمين أنفسهم. فالخطأ البشري، هو الحلقة الأضعف في سلسلة الأمان الرقمي.
وأوضح العزي في في حديث مع "المدن" أن الخطر الحقيقي لا يكمن في المنصات الرقمية أو في مستوى تشفيرها، بل في غياب الوعي لدى المستخدمين، حيث تتحول الأخطاء الفردية إلى ثغرات تستغل بسهولة. وقال: "يمكن لأي شخص أن يرسل محتوى خاصاً إلى آخر، فيقوم الأخير بتسريبه، وهنا لا تكون المسؤولية على التطبيق أو الأداة، بل على السلوك البشري نفسه".
والحال أن التشفير لا يمنع التسريب الناتج عن الإهمال أو ضعف الوعي أو انعدام إجراءات الحماية الأساسية، مثل كلمات المرور القوية أو التحقق بخطوتين، ورأى العزي أن "التكنولوجيا تمنحنا الأدوات، لكن الوعي هو الذي يحدد مستوى الأمان الفعلي في حياتنا الرقمية"، علماً أن الثغرات البشرية والتقنية يمكن أن تؤدي إلى كشف البيانات رغم اعتماد التشفير، مثل مشاركة الملفات عبر خدمات سحابية غير آمنة، أو دمج أدوات من أطراف ثالثة، أو حتى الإشعارات التي تكشف محتوى الرسائل على الشاشات المقفلة.
هذا التناقض بين الأدوات والوعي يختصر جوهر النقاش حول الحقوق الرقمية اليوم. فالتكنولوجيا تمنح الأفراد إمكانات غير مسبوقة، لكنها في الوقت نفسه تخلق أنماطاً جديدة من السيطرة والمراقبة. ولهذا السبب، كما أجمع المشاركون في الملتقى، لم تعد الحقوق الرقمية قضية تقنية، بل امتداداً مباشراً لحقوق الإنسان: من حرية التعبير إلى الكرامة الشخصية.
ولتعميق الفهم، شارك الحاضرون في الورشة في تمرين عملي لتتبع رحلة الرسالة الإلكترونية من لحظة كتابتها إلى لحظة وصولها إلى الطرف الآخر، مع تحديد نقاط الضعف المحتملة في كل مرحلة. وأوضح العزي أن التمرين يهدف إلى "تفكيك الغموض حول التشفير، وإبراز أن الأمان الرقمي عملية مستمرة تتطلب وعياً ومتابعة، وليس فقط مجرد تحميل تطبيق آمن".
وبموازاة الجلسة، شهد الملتقى نقاشات موسعة حول المراقبة الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي، وحماية الصحافيين والناشطين في البيئات القمعية، إضافة إلى ورش عمل حول الأمن الرقمي، وإدارة الهوية على الإنترنت، والعدالة الجندرية في الفضاء الإلكتروني. وفي ظل تصاعد الرقابة والانتهاكات الإلكترونية، شدد الحاضرون على ضرورة إدماج التربية الرقمية في المناهج التعليمية والإعلامية، بما يضمن وعياً مجتمعياً واسعاً تجاه مخاطر الفضاء الإلكتروني.
والمؤتمر الذي يجمع سنوياً ناشطين وصحافيين ومبرمجين وصنّاع سياسات من مختلف البلدان، فتح هذا العام ملفاً بالغ الحساسية: مَن يملك الكلمة الأخيرة في زمن الحرب؟ ومَن يقرر أي رواية ستكتب في التاريخ؟ وسط عالم تتداخل فيه الدعاية بالحقيقة، وتغدو فيه المنصات الرقمية ساحات للنزاع والسيطرة على الوعي.
