تحتاج البلاد شوفينيتها، كما تحتاج النفسَ النقيَّ في أزمنة الاختناق. ربما تخاف ألا تتعرّف إلى ذاتها إن فقدت شوفينيتها، ربما تحتاج إلى حبلٍ سرّيٍّ يربطها بهذه الأرض، لتكون قد مرّت في خيال الغزاة أو المهزومين. تحتاج البلدان لوناً لأعلامها وديناً لأولادها، الفلسفة، والفوز، تحتاج حكاية..
يخرمش سؤال الهوية حلقَ معظمنا، يدعونا للنحنحة قبل دخول سجالٍ يبدأ دائماً صحيحاً وينتهي بكارثة، بشتم الآخر وكراهيته. يسألك أحدهم مَن "أنتم"؟ وتسأل نفسك مَن "نحن"؟ وعندها يتساقط المنطق من جيوب الحديث، ويتسرب من الحوار كرملٍ في صحراء لا متناهية من المعارف والعلوم المخاتلة. أتينا من بلدانٍ حضرت طويلاً في خرائط هذا العالم، أتينا برفقة الشمس، كبرنا مع أشجار الزيتون، غزونا وغُزينا، وكلما تهنا بتلافيف التاريخ، عدنا للغناء كي نتعرّف على ذواتنا، نعود للشعر، وربما لروايات الأجداد.
كلما انتُهِكنا واستُعبدنا، ومات لنا كثيرٌ من الأبرياء، صرخنا "نحن" عند السؤال الجائر، المقلق، المزلزل: من أنتم؟ كأمة، كشعب، كعقيدة، أو كبلد. ودائماً ما تكون في الإجابة أخطاء لا بدّ منها، لأنك تُسأل السؤال الخاطئ، سؤال الخائف من الأنذال والطامعين، مَن يظنّون أنهم بفلسفتهم، أو عقيدتهم، أو مالهم يستطيعون وضعك في بطونهم وهضمك.
هي حكاية البشر منذ الأزل. لكن بعيداً من هؤلاء جميعاً، تعال نستلقي على شطوط المياه ساكنةِ الحركة، على قمم الجبال المتاحة للتأمل، تعال نترافق حول كأس نبيذ خمّره أجدادنا، أو كأس بيرةٍ باردة صنعناها لأننا لا نعلم ماذا نصنع بكل هذا القمح الأشقر. تعال نسأل: "كيف" لا "مَن". تعال لنحيد عن طلقات هذه الأسئلة القطعية التي تبغي جواباً مريحاً، نهائياً، جواباً لا يليق إلّا بالأغبياء ودكتاتوريّي المعارف. دعنا نمدّ موائدنا في قصورٍ مفتوحة، نستنشق روائح بخورنا، وطبخاتنا المعقّدة والسهلة بسهولة طبق باذنجانٍ مقليٍّ بالثوم والخلّ. تعال لنسأل كيف أصبحنا نحن، كيف صارت مصر، وكيف وصلت سوريا لتكون ما هي عليه اليوم، وكيف وعبر مَن وماذا يستطيع اللبناني أن يقصّ عليك حكاية الفينيقيين. أيحبّ أن يقول "سوريا الكبرى" أم يتمسّك "بشوفينيته الواعية" كي لا يكونك، أنت الجار اللدود، أنت السوريّ الذي كلّما تفرّج عليه حرّاً، حلواً، متشحاً بالموضة والشتائم والعتابا وصوت فيروز، سَعِد، حتى لو أنكرك لبنان وتعالى على كل ما فيك.
احتفل المصريون البارحة بفرعونيتهم مع افتتاح المتحف الوطني الكبير، احتفوا بكتلةٍ هائلة من تاريخٍ مضى، تاريخ رشحت منه معارفُ إنسانية، تسربت مثل ضوءٍ إلى الدنيا. وترشَح الشوفينية من المصريين أيضاً. فقد تلمَّسها وتعرَّف عليها كل "غريب"، أحبّها أو كرهها أو حنق منها. ليس هذا هو السؤال الأجدى هنا، بل: هل بإمكاننا تفهّمها؟ هل باستطاعتك أن تحبّ مصر متغاضياً عنها؟
منذ وصولي إلى الصقيع الكندي بتُّ أكثر تفهّماً ورأفة بالشوفينية القابعة في كل روحٍ مُهدَّدة. كوني، بعد تعرّضي لسؤال الهوية ذاك، التقطتُ بعضاً منها ينقط من كلماتي. سُئلت كثيراً وطويلاً حتى وصلت بي الأمور إلى أن أتنفّس بعمق، أن أبتسم بتفهّم، براحة بال، وأحيل الإجابة إلى تلك التي تفسر "كيف" أنا سوريّة. وهذا أكبر انتصاراتي. أحب أن يدافع البشر عن بلادهم، وأتفهّم في الوقت نفسه أن الأفراد هم الذين يحتملون الطفو، يحتملون ألّا يلاحقوا جذور أسمائهم في سلالة العائلة، أن يغادروا أعشاشهم ويطيروا في حالة السقوط الحرّ، لا أرض تحتهم يَحطّون عليها، ولا سماءَ يعرفون مدى ارتفاعها، مسلّحين بانفلاتٍ يتاح للأحرار فقط، للمتماسكين معرفياً، أو المجروحين والمتألمين من هوياتهم التي ألبسهم إيّاها أغبياء مُصّرون على السؤال المعجزة: "مَن أنت؟". يحتمل الأفراد القطيعة عن تاريخهم، الثورة عليه، نكرانه، شتمه. لكن البلاد بكتلتها الجمعية لا تستطيع ذلك. التاريخ بقسوته لا يحب من هم بلا جذرٍ أو أصلٍ أو حكاية. بقليل من التأمل، أعتقد أني أحب الشوفينية، ربما بعدالةٍ أكبر، أتفهّمها.
في حياتي السابقة، اشتغلتُ كمساعدةٍ "تائهة" مع المخرج يسري نصر الله في فيلم "باب الشمس". حكيت هذه الحكاية مرّات ومرّات، لكن ما لم أحكِه هو كيف فعلت كما يفعل أي عربيٍّ أمام المصريين الذين يعانون قليلاً في فهمنا "نحن" الأشقاء العرب. وحتى إن فهمونا "نحن الشوام"، فإن واحدنا غالباً ما يبادر من تلقائه إلى تبنّي المصرية المحكية، ومن دون أن يشكو السامع المصري فهمه أو يطلب منه ذلك، وكأننا بعقدة نقص مخفية أو رغبة غامضة في التقرب. هكذا، تكلمتُ، كي أُفهَم، بلهجة مصريةٍ "مجعلكة"، واشتَكيتُ لصديقي سامح الخولي في خلال صعودنا جبلاً كما اعتدنا في "باب الشمس". كنتُ مستاءةً من لساني الأعوج، فقلتُ له بنزقٍ، ظانّةً أن أحداً لا يسمعنا: "اللعفى انعوج لساني"، فسمعتُ خلفي أحد شباب الإضاءة المصريين، طالِعاً الجبل وراءنا، حاملاً معدات الإضاءة بلا لهاث، واسمه -يا للمتعة- "بيجو"، قائلاً: "دا اتعدل"!
نعم، لم تستطع "شوفينية" بيجو المحببة، أن تتقبّل قولي إن اللهجة المصرية في كلامي هي "عوجة لسان"، بل أعادتها إلى الأصل كي "تتعدل". والحكاية حتى الآن تضحكني حدّ الخدر.
أحب مصر. لم أفصح مرةً عن هذا الغرام، ربما ليس بهذه الفضائحية المجلجلة، خوفاً من الانسحاق أمامها، أو الالتحاق بقوافل عُبّاد هذه البلاد. أحبّ كيف يُفتي فيها كل عارفٍ أو غير عارف، بالدين، والفلسفة، والتاريخ، والطبخ، وكيف يعرضون عليك الزواج كما لو أنه قرار الذهاب إلى السينما: "كُت حَ روح السيما."
أحب كيف يخلّقون الضحك كما تُخلّق النباتاتُ الغذاءَ من الضوء. البارحة احتفل المصريون بذواتهم، واحتفلنا معهم بفرحهم، وبشوفينيتهم التي تتيحها لهم حكاياتهم العتيقة. لكن دعنا الآن من كل هذا الفرح الوقتي، الحلو كثيراً, دعنا نعود لواقعنا المرتعد أمام شعوب الأرض، بعدما غادرتنا الحداثة، أو تاهت عنّا. دعنا ننسى الرعب من الإمحاء، من التلاشي أمام المستهترين بنا أمماً وأفراداً. تعال نبدأ الحكاية من الأول، لا لنسأل مَن نحن، بل لنسأل كيف وصلت بنا الحكاية إلى هنا.
