عقدة إليكترا… نسخة تيك توك

نسرين النقوزيالسبت 2025/11/01
"زفاف إليكترا" للفنانة الإيرانية شادي نوياني
"زفاف إليكترا" للفنانة الإيرانية شادي نوياني
حجم الخط
مشاركة عبر

تمرّ في وسائل التواصل الاجتماعي، مقاطع فيديو القصيرة، حيث تقترب الأم من زوجها الجالس إلى جانب ابنته الصغيرة فتحضنه وتقبله وتبالغ في إظهار حبها له، كي ترى رد فعل طفلتهما، فتزمّ الصغيرة شفتيها غضباً وتحاول إبعاد أمها عن أبيها بغيرة واضحة. تضحك الأم، يضحك الأب، كما لو أن الخطة نجحت. تحاول الطفلة  تقليد القبلة نفسها بحماسة أكبر. تنظر إلى أمها لائمة، كأنها تقول: "ما فيكي تحبيّه، هو بس  إلي".

 

يبدو الموقف بسيطًا، لكنه يطرح تساؤلات: هل هذه لحظة عابرة من اللعب؟ أم مظهر مبكر من ملامح عقدة إليكترا؟ أم أنها فقط بداية الفوضى الأولى في تعلّم مفاهيم الانتماء والحبّ والتفضيل؟

 

كارل يونغ، الذي صاغ مصطلح "عقدة إليكترا"، لم يكن يتحدث عن الغيرة الفطرية للفتيات على آبائهن في سن صغيرة. بل عن حالة نفسية لاحقة، تنشأ عندما تتحول الغيرة البريئة إلى شعور داخلي متجذّر بالمنافسة مع الأم على حب الأب. وهي حالة لا تولد مع الطفلة، بل تُصنع بالتدريج، أحياناً من خلال تفاصيل منزلية تبدو بريئة تماماً.

 

حين تضحك الأم على غيرة ابنتها وتقول لها: “آه بتغاري؟ بابا إلي!”، فإنها — من دون أن تقصد — تؤكد أن الحبّ مساحة تنافس. تجعل من المشاعر مادة للتسلية، وتحولها إلى مشهد قابل للمشاركة. لكن هذا الضحك ليس بلا أثر. إنه يدرّب الطفلة على الشعور بالنقص، ويغرس فيها فكرة أن النساء يتنازعن الرجل، وأن الحنان لا يُمنح بالتساوي. هكذا تبدأ التربية على الغيرة، قبل التربية على الحبّ.

 

في أصلها الإغريقي، كانت عقدة إليكترا قصة انتقام. إليكترا ابنة الملك أغاممنون، أحبّت أباها حدّ التماهي، ثم رأته يُقتل على يد أمها كليتمنسترا. فكرهت الأم وسعت إلى الانتقام منها بمساعدة أخيها أوريست. رأى يونغ في الأسطورة تمثيلاً رمزياً لرغبة الفتاة في إزاحة الأم من المشهد لتبقى وحدها في مركز الحنان الأبوي. لكنه أوضح أيضًا أن التطور النفسي السليم يفترض تجاوز هذا الصراع في سن مبكرة، حين يتوازن التعلق بالأب مع اكتساب هوية أنثوية مستقلة.

 

في الواقع الاجتماعي، لا تُترك الأمور لتسير وفق هذا التوازن. البيئة العائلية تتدخل دائمًا. حين تكرر الأم على مسامع ابنتها فكرة "بابا إلي"، وتحتفي بغيرتها عليه، تخلق في وعيها المبكر صورة عن الحبّ بوصفه امتلاكًا وصراعًا. تتعلم الطفلة أن العاطفة تُربح وتُخسر، وأن مكانها يمكن أن يُنتزع منها. هذه الدروس لا تُقال مباشرة، لكنها تُبنى عبر مواقف صغيرة تتكرر بلا وعي. وحين تكبر الفتاة، تبدأ هذه المواقف في الظهور على شكل أنماط. تبحث في الرجال عن الأب الأول، أو عن بديله. تنجذب إلى من يشبهه، أو ترفضه لتنتقم منه رمزيًا. في الحالتين، تبقى صورة الأب مركز العلاقة، والغيرة هي الطريقة الوحيدة الممكنة للحبّ.

 

في الأدب العربي الحديث، تناولت نوال السعداوي هذه العلاقة باعتبارها امتدادًا لعلاقة المرأة بالمجتمع الذكوري. الأب عندها رمز للسلطة، ومصدر للحبّ والخوف في الوقت نفسه. أما غادة السمان فالأب في نصوصها ظلّ غائب، حضوره في الغياب نفسه. تكتب عن رجال يشبهونه، عن البحث المستمر عن أثره. الكاتبتان، ومن زاويتين مختلفتين، أعادتا صياغة جوهر المسألة نفسها: أن علاقة الفتاة بأبيها تصوغ شكل أنوثتها وحبّها لاحقًا، وأن غيابه أو مثاليته يخلقان في داخلها نموذجًا لا يمكن تجاوزه.

 

لكن المجتمع المعاصر لا يساعد على فهم هذه التعقيدات النفسية. المنصات الاجتماعية اختزلت علم النفس في عناوين ساخرة تُفقد السياق العلمي معناه فيُستبدل بفكرة ترفيهية . المقاطع التي تُعرض كطرائف عائلية تكرّس الفكرة نفسها: أن الغيرة جميلة، وأن التملك دليل حب.

 

غير أن عقدة إليكترا ليست نكتة. إنها نتيجة تفاعل معقّد بين التربية والثقافة والنمو النفسي. لا مشكلة في أن تغار الطفلة من أمها، إن كانت الغيرة مؤقتة ومفهومة. المشكلة تبدأ حين تتحول إلى هوية، حين يُقال لها إن الحبّ شيء يجب الدفاع عنه من أجل استمرارية حيازته، لا عاطفة تُشارك. في تلك اللحظة، تصبح الغيرة جزاً من الذات، ويصير الخوف من الاستبعاد هو الشكل الوحيد الممكن للحبّ.

 

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث