مقطع مصور انتشر خلال الأيام الماضية لأعمال ترميم في محيط أضرحة ثلاثة من أبرز علماء الإسلام في دمشق، أعاد النقاش حول الكيفية التي تعامل بها نظام الأسد مع تلك المواقع لعقود، ولماذا أُخفيت عن العامة خلف سور الجامعة قبل أن يعاد ترميمها فجأة، وبمباركة رسمية من جامعة دمشق وجمعية التواصل الحضاري.
الفيديو الذي أرفق بتعليق مقتضب عن إعادة الاعتبار لعلماء الأمة، أظهر عمالاً ينظفون محيط القبور ويعيدون تثبيت الحجارة وترتيب الأرضية حولها، في بقعة صغيرة تقع بين مبنى جامعة دمشق ومشفى التوليد الجامعي، وسط العاصمة السورية، وهو المكان الذي بقيت فيه قبور شيخ الإسلام ابن تيمية، والمحدث ابن كثير، والمحدث ابن الصلاح، محاصرة لعقود داخل حرم الجامعة بلا لوحات تعريفية ولا شواهد ظاهرة ولا إمكانية زيارة عامة من قبل الناس.
حينما طُمرت مقبرة الصوفية داخل الجامعة
تنكشف قصة المقبرة عند تتبع المكان نفسه والمعروف تاريخياً باسم "مقبرة الصوفية" أو "مقبرة البرامكة"، التي كانت تضم منذ القرن السابع الهجري عدداً من أعيان العلماء الدمشقيين، قبل أن يُبتلع جزء كبير منها بفعل التوسع العمراني الحديث، لا سيما بعد تشييد "الجامعة السورية" التي أصبحت "جامعة دمشق" لاحقاً ومشفى التوليد التابع لها.
وبحلول النصف الثاني من القرن العشرين، لم يتبق من المقبرة فوق سطح الأرض سوى ثلاثة قبور تعود لابن تيمية وابن كثير وابن الصلاح، في حين بُنيت فوق بقيّتها مبانٍ إدارية ومرافق خدمية.
أغلقت البقعة بسور حديدي وأدرجت ضمن ممتلكات الجامعة وتحولت مع الوقت إلى ساحة خلفية مهملة من دون أي اهتمام رسمي، بل تدهورت حالها حتى غابت علامات القبور عن العيان وأصبحت بحاجة إلى من يدل الزائر حتى على موضع قبر ابن تيمية نفسه، كما وثقت تقارير ميدانية نشرت في السنوات الأخيرة. وأقر أحد موظفي الجامعة وفق هذه التقارير بأن شاهد قبر ابن تيمية أُزيل عمداً.
من هم هؤلاء الدفناء؟
تعود القبور الثلاثة في مقبرة الصوفية إلى أسماء محورية في تاريخ التقليد السني الدمشقي، وشكلت معاً سلسلة مترابطة من العلماء النصيين الذين تركوا أثراً بالغاً في الفقه والعقيدة والتفسير. أوّلهم ابن الصلاح (1181–1245)، الفقيه الشافعي والمحدّث الكردي، الذي أسّس علم مصطلح الحديث من خلال "مقدمة ابن الصلاح"، ووضع بذلك قواعد علم الرواية في الإسلام السني، وعرف بموقفه الحاد من الفلسفة والمنطق، ودعا إلى إقصاء الفلاسفة من المؤسسات التعليمية الشرعية. ثم يأتي ابن تيمية (1263–1328)، الفقيه الحنبلي والمفسر الدمشقي، الذي سجن مراراً في حياته بسبب مواقفه الحادة تجاه الصوفية والأشاعرة ورفضه التوسل للأولياء والأضرحة، وكان لأسلوبه النصي الصارم أثر بالغ في بلورة الفكر السلفي المعاصر، ليصبح لاحقاً مرجعاً رئيساً للتيارات الإصلاحية والجهادية على حد سواء.
أما ابن كثير (1300–1373)، فهو المفسر والمؤرخ الشافعي الذي تتلمذ على يد ابن تيمية، وتأثر به منهجياً واشتهر بتفسيره المعروف "تفسير ابن كثير"، إلى جانب موسوعته التاريخية "البداية والنهاية"، ودفن بجوار أستاذه في المكان نفسه. هؤلاء الثلاثة يشكلون في وعي تيارات سنية واسعة النطاق، بنية مرجعية لا تزال حية، تُعاد طباعة كتبهم من أجل تدريسها وتوظيفها، خصوصاً في الأوساط ذات النزعة النصية والسلفية، وهذا ما يجعل وجود قبورهم في قلب دمشق دلالة ثقافية وعقائدية ورمزية، سواء بالمعنى التراثي... والآن بعد ترميمها وإبرازها، بالمعنى "المعاصر" أيضاً.
عداء نظام الأسد لهذه المقابر
ولم يصدر نظام الأسد الأب ثم الابن قراراً علنياً بإزالة هذه القبور، لكنه تعامل معها فعلياً بوصفها عبئاً رمزياً. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، ومع تصاعد الصراع بين النظام والطيف الإسلامي السنّي، اعتبر النظام، ابن تيمية خاصة، مرجعية مشبوهة تغذي خطاب المعارضة وتُستثمر من قبل تيارات الإسلام السياسي، المعتدلة والجهادية. في المقابل، صاغ النظام سردية أمنية حول "التطرف السنّي"، جعلت من ذكر اسم ابن تيمية نفسه محفوفاً بالحذر.
في هذا السياق، ظهرت روايات متواترة في الصحافة المعارضة عن محاولات النظام نقل أو إزالة قبر ابن تيمية، بعضها أُحبط بتدخل عربي في زمن حافظ الأسد، وبعضها الآخر نفّذ بطريقة غير مباشرة عبر إزالة الشواهد وتعطيل إمكانية الوصول إلى الموقع. هذه الروايات أشارت إلى ضغوط من السفارة الإيرانية في دمشق ونفوذ إداري لتيارات طائفية داخل جامعة دمشق، رأت في بقاء القبر تهديداً لتوازن رمزي سعت إيران إلى ترسيخه في دمشق بعد العام 2011، باعتبارها "عاصمة المقامات الشيعية" التي تحرسها الميليشيات التابعة لها وفي مقدمتها "حزب الله" و"لواء أبو الفضل العباس".
وهكذا تحول المكان إلى ما يشبه "الجيب المعزول"، لا أثر فيه لأيّة لوحة تعريفية أو سياج يحفظ القبور، ولا ذِكر رسمياً لها في النشرات السياحية أو الثقافية بالرغم من وجودها في قلب العاصمة، وذلك في مقابل تضخيم إعلامي وأمني لمقامات شيعية في أطراف دمشق، وعلى رأسها مقام السيدة زينب، الذي صور طيلة سنوات الحرب بوصفه "رمزاً يستدعي التدخل المسلح لحمايته".
