في أحد شوارع اللاذقية، وبينما كانت الكاميرا تتحرك بلا وجهة محددة، صادف صانع المحتوى السوري عزام الخالدي رجلاً مسناً بشعر أبيض وعينين غائرتين يفترش الأرض، ويضع السماء سقفاً، ويصنع من الصمت مكاناً يعيش فيه.
لم يكن يحمل لافتة أو يطلب مالاً، فقط رجل متعب من العالم يتكئ على دفتر وقلَم. اقترب منه الخالدي ليكتشف بذهول أن هذا الرجل لا يجيد الكلام فقط؛ بل يكتب القصص، ويحلم بالنشر.
لم يكن المشهد عادياً.. فالرجل الذي عرّف عن نفسه باسم العم محمد، كان يقرأ من مقدمة قصة كتبها بعنوان "لماذا يهوى الناس الانصراف؟"، بصوت رخيم وبلغة متينة وتعبيرٍ يشبه الكتّاب الذين عبروا الأدب العربي الكلاسيكي بأرواحٍ محترقة.
وانتشر الفيديو الذي لم يتجاوز الدقيقتين على نحوٍ جنوني، وحصد أكثر من 3 ملايين مشاهدة وآلاف التعليقات التي تساءلت كيف يمكن لرجل بهذه الثقافة أن يُترك في الشارع من دون منزل أو حتى فرصة؟
رغبة العيش في العراء
وتحدث العم محمد في الفيديو عن حلم الطفولة والرغبة في العيش في العراء بحرية وبلا جدران أو قيود، واستحضر أبياتاً لأبي فراس الحمداني، ثم ابتسم للخالدي وقدم له كوب شاي أعدّه على الحطب، كأنه يقول: "أنا أملك شيئاً أعطيه، حتى لو كان قليلاً".
وحكى العم محمد عن شغفه بالكتابة، وعن دفاتره التي يملؤها بالقصص، وعن فرحه حين يتخيل نفسه ناجحاً في مجاله، قائلاً: "لا تتخيل سعادة الإنسان حين يعمل عملاً بمجاله وينجح فيه". وأضاف: "لو نُشرت لي مجموعة قصصية ووجدت من الناس التقدير، لشعرت بسعادة كبيرة، تنسيني هذا الفقر الأسود الذي أنا فيه". ثم يختصر غربته بجملة تقطع الأنفاس: "أصعب أنواع الغربة، هي الغربة في الوطن".
وتابع العم محمد بشيء من السخرية: "الناس يقولون أني مجنون، لأني أكتب قصة قصيرة"، كأنه يدرك تماماً أن المجتمع لا يغفر للضعفاء أن تكون لهم أحلام.
وزير الثقافة
لكن هذه المرة لم تكن الحكاية حلماً ينتهي عند الشاشة، فما هي إلا ساعات قليلة، حتى وصل الفيديو إلى وزير الثقافة محمد صالح الذي كتب تعليقاً في حسابه الشخصي: "وجهت فريقنا في اللاذقية لتوظيف العم محمد في وزارة الثقافة، إذا تكرّم بالموافقة، والتحضير لطباعة مجموعته القصصية وتزويده بهاتف لتسهيل التواصل. ولولا أني خارج البلاد لأتيته بنفسي، فهو يستحق".
هذا الرد الإنساني من الوزير حرك موجة فرح في المنصات، ودفع الخالدي للبحث مجدداً عن العم محمد ليبلغه الخبر بنفسه. لم يكن لدى الرجل هاتف ولا علم بما جرى، وعندما سمع ما حدث لم يجد ما يقوله سوى: "يا إلهي… ما توقعت أبداً، الله يفتحها بوجهي بهالشكل"، ثم راح يقلب دفاتره، واحداً تلو الآخر، كأنها شهادات ميلاد مؤجلة، وقال إن القصص كلها مستوحاة من الواقع المزري الذي عاشه كمشرّد، لكنه لم يتوقف يوماً عن القراءة والكتابة.
قصة العم محمد أثارت الكثير من الأسئلة والنقاشات حول كم مِن عم محمد في هذه البلاد؟ وكم من الموهوبين دفعهم الفقر أو الحرب أو الإهمال إلى حافة الحياة؟ وكم من الحكايات تذروها الرياح لأن أصحابها لا يملكون ورقة أو منصة أو حتى هاتفاً محمولاً؟
