في حلقة مطولة من "بودكاست دفين" في شاشة "تلفزيون سوريا"، خرج أحمد هشام خليل المولود في دمشق العام 1948، عن صمته، ليروي واحدة من أكثر الشهادات حساسية عن بُنية النظام السوري ما قبل سقوطه، جامعاً في سيرته الشخصية بين التدريس لأبناء الحلقة الحاكمة في الثمانينيات، وبين سنوات الاعتقال القاسية في سجن تدمر العسكري، مقدّماً ما يشبه الصورة الداخلية لعقيدة الحكم كما تشكلت داخل صفوف الدراسة ثم طبقت في الزنازين.
بشار بطيء الفهم
عمل أحمد خليل، أستاذاً لمادتي الفيزياء والكيمياء في "مدرسة اللاييك"، إحدى مدارس النخبة في دمشق، ودرّس في أواخر السبعينيات، بشار الأسد، حين كان في الصف العاشر، وأبناء رفعت ومجد الأسد، وباسم خدام، ابن عبد الحليم خدام، وغيرهم من أبناء كبار مسؤولي النظام. في تلك البيئة الطبقية المغلقة، كان الحزب والعائلة بمثابة قانون حياة، أما الطلاب فكانوا يعيشون وعياً مبكراً بتفوقهم الاجتماعي والسياسي ترجم إلى لغة تهديد وعنف.
لكن المشهد العالق في ذاكرة خليل، ليس تعليم الكيمياء، بل انطباعه عن بشار الأسد كتلميذ ضعيف القدرات، بطيء الفهم، لا يصلح حتى لرئاسة مخفر. وروى خليل أنه حين كان الصف يضحك على نكتة ما، كان بشار يتأخر في فهمها، ثم يقلّد ضحك الآخرين متأخراً، وكأنه يحاول اللحاق بجو لم يكن مؤهّلاً له. وبعد عقود عاد القصر الجمهوري ليتصل بخليل العام 2021، طالباً منه حضور حفلة أداء القسم الرئاسي "بصفته أحد المعلّمين القدامى لبشار"، في محاولة رمزية لصياغة مشهد وفاء، كما فهم خليل من الدعوة.
الجواسيس الإسرائيليون لا يُعذّبون
وكشف لقاء المدرس مع بشار، بعد كل تلك المدة، صورة مختلفة له، وقال: "كان مسكيناً عن جد، لا يستطيع تركيب جملتين من دون ورقة مكتوبة"، مشيراً إلى أن من يدير الفضاء السياسي حوله هم رجال ونساء أقوى منه، في إشارة إلى البنية التي حكمت سوريا باسمه.
وخصّ خليل جزءاً من شهادته لسجن تدمر الذي اعتقل فيه عشر سنوات بصفة سجين سياسي، في عهد حافظ الأسد، ووصف السجن كمؤسسة إبادة بطيئة كانت تضم أحداثاً دون الرابعة عشرة من العمر، ومهندسين وأطباء وطلاب علم، ومورست فيه طقوس إذلال ممنهجة من جلسات محاكمات صورية تستمر "ثلاثين ثانية" إلى حفلات الإعدام الجماعي فجراً، فتنادى أسماء الضحايا ويُسحبون من الزنازين كما لو أنهم أموات.
وقال خليل إن السجن احتوى أجنحة مخصصة "لـلجواسيس الإسرائيليين"، وهم الفئة الوحيدة التي لم تكن تضرب، مما يشير إلى تمييز داخلي حاد. كما تحدث عن محاولته كأستاذ أن يحافظ على بقايا إنسانية داخل الزنازين من خلال تدريس الفيزياء والرياضيات سراً، باستخدام صابون الجيش كأدة للكتابة على البطانيات، في تحد للمنع الصارم للكتابة والقراءة. ووصف خليل لحظة الإفراج عنه بأنها كانت ذروة الإذلال، فكانت عيون السجناء معصوبة وطلب منهم الوقوف "خمسة خمسة" في باحة السجن كي يهتفوا "بالروح بالدم نفديك يا حافظ"، كإقرار علني بالهزيمة النفسية أمام مَن سجنهم وعذبهم.
تصفية ممنهجة للجيش
وفي قراءته لبنية الحكم الأسدي، يرى خليل أن كل ما حصل بعد انقلاب آذار 1963، كان تصفية ممنهجة للجيش السوري من داخله، بدءاً من إعدام أكثر من 500 ضابط سنّي بعد محاولة الانقلاب في تموز من العام نفسه، مروراً بتسريح مئات الضباط الآخرين، ووصولاً إلى تحويل الجيش إلى أداة طائفية مكرّسة لحماية السلطة، معتبراً أن الهزيمة السريعة في حرب العام 1967 كانت نتيجة قرار سياسي بالانسحاب الفوضوي من الجولان، محمّلاً مسؤوليته بشكل مباشر لحافظ الأسد وكان حينها وزير الدفاع.
وتقدم شهادة خليل تجربة شخصية وإدانة فكرية وأخلاقية لبنية كاملة حكمت سوريا بالقوة والعائلة والدين والخوف، صنعتها مدرسة حافظ الأسد ورفعت ورعاها رجال الدين الرسميون، وغطاها خطاب حزبي تحوّل إلى أداة تفريغ للمجتمع من نخبه لصالح الولاء المطلق. وفي ختام شهادته، وبعد عقود من القمع والصمت والمنفى، قال خليل: "الحمد لله على سلامتنا أننا تخلصنا من هذا النظام، الأب كما الابن"، مشيراً إلى أن الثورة التي بدأت العام 2011 بكل أثمانها، أسقطت الخوف وأسقطت معه آلة السلطة التي لطالما تعاملت مع البلد كسجن كبير.
