وداعاً "أكتوبر الوردي". وداعاً لحضور مكثف في شاشاتنا لمعاناة "سرطان الثدي" وآمال الشفاء. هو ليس الوداع تماماً، سيعود أكتوبر في العام المقبل محملاً بالتوعية والتذكير والتشجيع والتعاطف والتمويل. ومثل كل عام، انضمت وزارة الصحة إلى الموجة العالمية في حملة "صرتي بالأربعين ما تفكري مرتين" التي تؤمن كلفة الفحص المبكر، بفضل هبة من "البنك الدولي"، تتيح القيام بـ30 ألف صورة للسيدات فوق سن الأربعين.
وكالعادة، أطلقت الحملات مؤسسات طبية ومنظمات غير حكومية، ومدارس وجامعات، وماركات تجارية، ومؤثرات وفنانات أبرزهن الفنانة إليسا الناجية من المرض. في الواقع، نجح الشريط الوردي ومواده البصرية الجذابة، في التذكير بالشهر، وبات لونه رمزاً ذهنيا للمرض، كأنه "المرض الوردي" تقريباً، ما يطرح سؤالاً غير سابق لأوانه عن أثر الحملة في النساء، وخصوصاً المريضات بسرطان الثدي، في مقابل تأثير عملي يبدو ضبابياً في الحد الأدنى، خصوصاً في ما يتعلق بحصول النساء على العلاج ضمن نظام طبي تمييزي ومكلف كما هو الحال في لبنان.
مريضات لبنان والعلاج المتعسر
والواقع اللبناني ليس مريحاً، كما أنه ليس استثناء عالمياً. فبحسب "منظمة الصحة العالمية" تصدر سرطان الثدي أنواع السرطان الأكثر شيوعاً في لبنان العام 2022 بنسبة 16,6%، يليه سرطان الرئة. وبحسب حملة وزارة الصحة اللبنانية، يتصدر المرض أنواع السرطان التي تصاب بها النساء في لبنان بنسبة 43%، ويقدر عددهن بـ 2500 إلى 3000 امرأة جديدة مصابة سنوياً، لكن 99% ممن يكشفن عنه بشكل مبكر يسلكن طريق الشفاء.
ويسجل لوزارة الصحة إطلاقها حملة الفحص المبكر وإدراج هذه الأولوية في مشاريعها، بعد احتجابها بسبب الأزمات المتعددة الواقعة منذ أواخر العام 2019. ورغم ذلك، تبقى الخطوة غير كاملة، لأنه بافتراض أن حملة وزارة الصحة تهدف إلى الوقاية من المرض، كيف تواجهه المصابات به؟
يعلق رئيس جمعية "بربارة نصار لدعم مرضى السرطان" هاني نصار، بأن مبادرة وزارة الصحة إيجابية من دون شك، فالفحص المبكر يشكل خط الدفاع الأول ضد المرض، لكن ينبغي التحقق من جودة ودقة آلات التصوير، مشيراً إلى تجارب في سنوات سابقة، تبين فيها أن سيدات في بعض المستشفيات المدرجة خضعن لفحوصات "ماموغرام" لم تظهر إصابتهن، وثبتت إصابتهن في مراكز أخرى. واستدرك بأن وزير الصحة الدكتور ركان ناصر الدين، أعلن أن كل المستشفيات ستزود بآلات تصوير شعاعي رقمية، هي الأدق، لكن بعد سنة، ما يترك هوامش من عدم الدقة.
"أكتوبر الأسود"
أما في حال إصابة السيدة بالمرض، فإن التقديمات الطبية الحكومية، بحسب نصار، تحسنت من خلال توفير بعض الأدوية غير المتوافرة سابقاً ومنها كذلك لسرطانات المبيض، كما تكبح بشكل أفضل ممارسات الفساد التي فجرت أزمة أدوية السرطان في وقت سابق، حيث رقمنت منذ سنتين آلية الحصول على الأدوية، وفعلت اللجنة العلمية.
في المقابل، ما زالت التقديمات الحكومية قاصرة عن تذليل الصعوبات المادية. وفي المثال الأوضح، تغطي وزارة الصحة بشكل جزئي فحص "PET Scan" الذي يتتبع تفشي المرض في الجسم، فقط في المستشفيات الحكومية داخل طرابلس والنبطية وراشيا، ويفرض مبلغ 200 دولار كفارق، وهذه أحسن الحالات.
والفوارق المناطقية هنا هي تجسيد لطبقة من بنية تمييزية في النظام الطبي اللبناني. المعادلة سهلة وفجة: النساء الأكثر وصولاً إلى الموارد، هن الأكثر وصولاً للعلاج، وبالتالي الأوفر حظوظاً في الشفاء. وفي حديث مع السيدة أربعينية صفاء ع. من عكار، والناجية من سرطان الثدي، قالت "للمدن": "أحقاً نتحدث عن أكتوبر الوردي؟ يجب أن يسموه أكتوبر الأسود".
وكان المنعطف الصحي في حياة صفاء العام 2023. هي أم لثلاثة أولاد، عاطلة عن العمل حالياً، وكانت وقت إصابتها مشمولة بالضمان الاجتماعي الذي يغطي 8 دولارات من أصل 300 دولار هي كلفة الـ"Pet Scan". أما اليوم، فـ"إضافة إلى الأدوية، يجب علي الخضوع لفحوص دورية كل ستة أشهر بكلفة 600 دولار، وزوجي راتبه 1000 دولار شهرياً. لم يستطع الشريط الوردي أن يمسح عني الشعور بالذنب".
بالونات وأظافر زهرية
تحضر شهادة صفاء كمثال سريع وملطف وجزئي لتجربة الحصول على علاج سرطان الثدي والتأكد من عدم عودته، في حالة واحدة من آلاف النساء في مجتمع لبناني تشكل نسبة الفقر فيه 44% بحسب تقرير البنك الدولي العام 2024.
وفي واقع مواز، انتشرت في حسابات "إنستغرام" لتلميذات في ثانوية لبنانية، مشاهد "الحياة الوردية" بامتياز: يرتدين القمصان المبهجة، يطيّرن البالونات في الملعب، ويبعن "غزل البنات"، والدوناتس المغلف بالسكر، تفاصيل ملونة كلها باللون الزهري. وعند سؤال فتاة عن النشاط، قالت أنه موجه لتمويل علاج النساء المصابات بسرطان الثدي، وعند سؤالها عن الجهة، يظهر أنها لا تعلم.
ومن باب حسن النية، سيكون معقولاً إعفاء التلميذة من معرفة الجهة، وربما يحقق النشاط لديها ولدى رفيقتها وعياً مبكراً بالمرض، لكن هناك ما ينحرف بشكل نافر عن العبرة ويسلك بعداً تجارياً محضاً، حين يعلن صالون للتجميل خصماً من الفاتورة، إذا اختارت السيدة اللون الزهري طلاءً للأظافر. أي علاقة منطقية ستفترض هنا، بين لون طلاء الأظافر لامرأة تمارس العناية بالذات أو رفاهية التجميل في الصالونات، والتخفيف عن امرأة أخرى مصابة بالمرض؟
والسؤال نفسه يُطرح على ماركة تجارية عالمية للملابس الداخلية مهرت الحمالات الصدرية بالشريط الوردي، والشركة لم تخصص أرباحها المجنية من هذه الحمالات لمساعدة هؤلاء النساء. ويتطرف التناقض لدى شركة مستحضرات تجميل، كانت أول من تبنى حملات "أكتوبر الوردي"، ولكن ثبت استخدامها مواد مسرطنة في بعض مستحضراتها.
ويطلق على هذه الحملات الزائفة مسمى "الغسيل الوردي"، وقد باتت أكثر انتشاراً مع انطلاق الموجة النسوية الرابعة العام 2012، لأنها تعتمد بشكل أساسي على مواقع التواصل الاجتماعي في النضال والتعبئة وبث الرسائل، وليس جديداً القول أنها قنوات يطغى فيها الشكل على المضمون، والعنوان على الممارسة، ومتن دعائي تحقق خوارزمياته الربح لشركات وأفراد.
من جهة ثانية، صحيح أن وزارة الصحة اللبنانية اعتمدت لغة دامجة في حملتها، وإن كان لتأكيد ما لا يجب تأكيده، من خلال إشراك سيدات من مختلف الرموز الدينية، لكن الدمج لم يشمل فئة واسعة من النساء الفقيرات المصابات بالمرض، وهن الأكثر حاجة للدعم بأشكاله كافة. وإن صح القول في سرطان الثدي "هيداك المرض" تشاؤماً من تسميته، فإن العلاج يبقى "هيداك العلاج"، بعيد المنال، والمحصور في فئة نادرة.
لا يمكن تجاهل الانتماء الأصيل والعملي لـ"أكتوبر الوردي" إلى "الراعي الأبيض" الذي يفرض أولويات التمويل ويمنحه للحكومات والمنظمات، ويشكل نمطه الرأسمالي ثقافة المؤسسات الخاصة، محكماً السيطرة على قوالب وممارسات التصدي لسرطان الثدي، وفق شروط تزعم المساواة بين الناس وبين النساء، لكنها في جوهرها لا تفيد، بل ربما تستغل أوجاع آلاف اللبنانيات وأمثالهن في بلدان مفقرة ومنسية.
