"وان بيس" مُلهم ملايين المحتجين...قراصنة الحرية والعدالة!

وليد بركسيةالسبت 2025/10/25
علم "وان بيس" يرفرف ضد الشرطة في البيرو (Getty)
علم "وان بيس" يرفرف بمواجهة الشرطة في البيرو (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

في زمن تتصاعد فيه الاحتجاجات الشبابية من جاكرتا إلى الدار البيضاء، ومن سانتياغو إلى دكا، ظهرت صور غريبة بشكل متكرر مرسومة على لافتات كرتونية، أو مخيطة على أعلام، أو مرشوشة كغرافيتي على الجدران: قبعة بطل سسلسة "وان بيس" لوفي المصنوعة من القش أو علمه المكون من  جمجمة "جولي روجر". وما بدأ في أواخر تسعينيات القرن الماضي كسلسلة مانغا يابانية وأنمي أسطوري عن القراصنة تحول إلى لغة عالمية للمقاومة، خصوصاً بين أبناء الجيل زد، الذين تجاوز المسلسل بالنسبة لهم الاستعارة اللغوية ليصبح بياناً سياسياً.

 

ولا يأتي ذلك من مجرد صدفة، لأن "وان بيس" التي ابتكرها الفنان إييتشيرو أودا العام 1997، تروي قصة فتى يحلم بأن يصبح ملك القراصنة، ليس من أجل السلطة أو الثروة، بل من أجل الحرية، متجولاً بين البحار للوصول إلى الكنز الأسطوري "وان بيس" الذي لا يعرف ماهيته أحد أصلاً، متحدياً النكات والتنمر والتشكيك به، على غرار ملايين من الأفراد الذين يحلمون بتحقيق أشياء في حياتهم، بسيطة كانت أم معقدة، ويصطدمون بالواقع التعيس حولهم، بشكل بيئة غير داعمة أو سلطة غاشمة أو عائلة متسلطة وأصدقاء متنمرين.

 

تظاهرات جزيرة باري شمالي جاكارتا (غيتي)
تظاهرات جزيرة باري شمالي جاكارتا (غيتي)

 

وفي عالم تهيمن عليه حكومات فاسدة وقوى خفية من النخبة، تبحر فرقة لوفي في البحار والمحيطات، تواجه الظلم وتساعد الأفراد المستضعفين وتسقط الأنظمة الاستبدادية، ضمن ملحمة هائلة تمتد عبر أكثر من ألف حلقة، وعشرات الفصول، وقاعدة جماهيرية هائلة تتجاوز مئات الملايين حول العالم ممن يذرفون الدموع مع الحكايا العاطفية جداً التي تلامس شيئاً في صميم الروح الإنسانية عن معنى الحياة والحرية والتوق لصلات بشرية عميقة وحقيقية، خصوصاً في زمن باتت فيه تلك الصلات نادرة بسبب الحياة المعاصرة.

 

ورغم أن الامتداد الزمني والقصصي مذهل بحد ذاته، إلا أن سر التأثير العالمي للسلسلة يكمن أعمق من ذلك، تحديداً في فلسفتها العميقة التي لا يتخيل من يختبرها للمرة الأولى أنها موجودة أصلاً مقابل الاعتقاد بأنه أمام مجرد أنمي آخر من سلاسل الأكشن اليابانية الموجهة للأطفال أو المراهقين، قبل أن يصطدم بعالم مذهل عميق وواسع ومتصل بشكل يجعل من أودا عبقرياً على الصعيد الأدبي في بناء العوالم والحبكات والشخصيات. 

 

ومن المذهل حقاً أن اسم أودا لا يحضر في فعاليات عالمية لتكريم الأدباء والكتاب على غرار "نوبل" للآداب التي منحت قبل سنوات إلى مغني وموسيقي وكاتب أغنيات مثل بوب ديلان! بينما تبقى المانغا رغم أنها فن يمزج الأدب المكتوب بالرسوم المصورة، بعيداً عن نقاشات مماثلة رغم القيمة التي تضج بها تلك المؤلفات وتبقى مهمشة في خطاب "النخبة المثقفة" التي لطالما نظرت باستعلاء إلى فنون أخرى، أو حتى أنماط أدبية أخرى مثل الأدب البوليسي بمثال أغاثا كريستي، التي مازالت أكثر الكتاب مبيعاً عبر التاريخ وتواجه أحياناً، خصوصاً في دول مثل الشرق الأوسط، تنميطاً بوصفها أقل قيمة من "الأدب الحقيقي"، رغم أن ما كتبته، يلامس إلى حد ما ما يتواجد في "وان بيس" في غوص عن معنى الطبيعة البشرية ومعنى الإنسانية، مهما كان القالب الأدبي المستخدم مختلفاً.

 

أمام السفارة الأميركية في العاصمة البرازيلية برازيليا (غيتي)
أمام السفارة الأميركية في العاصمة البرازيلية برازيليا (غيتي)

 

وتدور القصة حول فكرة بسيطة لكنها ثورية: الحرية مقدسة. كل شخصية في السلسلة تسعى إلى حريتها الخاصة، سواء كانت حرية أن تعيش من دون خجل، أو أن تعبر من دون خوف، أو أن تحب من دون عقاب. في عالم تطالب فيه الأنظمة والمؤسسات والعائلات والمجتمعات بالخضوع والطاعة، تعرض فرقة لوفي بديلاً جذرياً: تقرير المصير بلا مساومة لأنه لا معنى من الحياة إن كانت الحياة مزيفة أصلاً، وهي قيم لا يمكن أن تتواجد طبعاً إلى ضمن بيئة سياسية ديموقراطية.

 

هذا الموضوع يلامس قلب أي إنسان، خصوصاً في السياقات القمعية. في أنحاء العالم العربي، وفي أجزاء من أميركا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا، تواصل الأنظمة الاستبدادية احتكار السرديات، وتجريم المعارضين، وتسخير الدين أو القومية لقمع الشعوب. والمتظاهرون في هذه المناطق لا يطالبون فقط بإصلاح اقتصادي بقدر ما يطالبون بالكرامة. يريدون أن يتنفسوا، أن يوجدوا، أن يعيشوا من دون مراقبة أو خوف. وعندما تصدح هذه المطالب داخل مغامرات لوفي ورفاقه حيث كل فصل هو معركة ضد الطغيان، وكل جزيرة استعارة لواقع سياسي، لا تصبح "وان بيس" قصة مصورة عابرة، بل نصاً ملهماً يمحي الفواصل بين الخيال والحياة الحقيقية.

 

 

وفي "وان بيس" يأتي القراصنة من بيئات مختلفة، هم أشخاص عاديون، أو بقدرات خارقة، هم لصوص سابقون، أو مجرمون مدانون لأسباب سياسية، أو باحثون وعلماء تمت ملاحقتهم منذ طفولتهم لمجرد أنهم من قرية معينة بسبب معرفتهم العلمية بالتاريخ والتدوين. هم حالمون بحياة بسيطة أو بمغامرة أسطورية. هم نماذج فوق واقعية لشخصيات موجودة في الحياة الحقيقية، وليس من الغريب أن يتحولوا إلى رموز بعد كل هذا السنوات من وجودهم في المخيلة العامة حول العالم، والأكثر أن الشخصيات الشريرة الذين يقدمون في السلسلة كآلهة وملوك ورجال سلطة، تلاقي صدى أيضاً عبر عكسها على السلطات الحاكمة والفاسدين الذين يصبحون جزءاً من "التنانين السماوية" أو الحكومة العالمية الفاسدة. 

 

والأهم أن السلسلة، التي تم اقتباسها في سلسلة تلفزيونية في "نتلفلكس"، لا تقدم التمرد كقضية مطلقة ضد الشر. القراصنة يصنفون كخارجين عن القانون، ملاحقين من قبل البحرية، ومشوهين في الإعلام. لكن السرد باستمرار يهدم هذه الثنائيات. حتى قوات البحرية تضم الشرفاء والفاسدين، والقراصنة ليسوا جميعاً طيبين. المهم هو النية والأخلاق الشخصية التي تتجاوز النمط الأخلاقي المقبول من السلطة أو المجتمع. هذه الرمادية تعكس الواقع الحقيقي للعديد من المتظاهرين الشباب الذين تلصق بهم تهم الإرهاب أو الاندساس أو التحريض، رغم أن مطالبهم عادلة. وكما هو حال لوفي، يخوضون معركة لا من أجل البقاء فقط، بل من أجل تعريف الذات.

 

والقوة العاطفية للسلسلة تكمن أيضاً في بعدها الحميم. خلف كل معركة كبرى هناك ألم شخصي: النبذ، النفي، الاضطهاد، الجوع، الفقد. الفريق ليس مجرد مجموعة قتالية بل عائلة وجدانية مختارة تتجاوز العائلة التقليدية، وهي فكرة أصلاً منتشرة في الحياة المعاصرة لأن الصلة بالدم ليست كافية من أجل تكوين علاقات عميقة، بل على العكس ربما تكون الصلات العائلية هي الأكثر سمية في حياة الأفراد أحياناً.  وهذا مهم في عالم ينشأ فيه الكثير من الشباب وهم منبوذون من عائلاتهم البيولوجية بسبب السياسة، أو الدين، أو الميول الجنسية، أو مجرد اختلافهم. فرقة لوفي لا تطلب من أعضائها التغيير، بل تحتفل باختلافهم. بهذا المعنى، لا تمثل "وان بيس" حلماً سياسياً فحسب بل تجسد حلماً إنسانياً: أن تكون محبوباً من دون أن تضطر لإخفاء نفسك.

 

طلب متزايد على خياطة الأعلام في اندونيسيا (غيتي)
طلب متزايد على خياطة الأعلام في اندونيسيا (غيتي)

 

ولا يمكن تجاهل تعامل السلسلة مع الهوية والجندر والسيولة في التصنيفات. شخصيات مثل "بون كلاي" الراقص الذي يضحي بنفسه مراراً في سبيل الصداقة و"ياماتو" التي تتحدى القوالب الجندرية، أو "إيمبوريو إيفانكوف" الضابط في الجيش الثوري رغم أنه "دراغ كوين"، وعشرات غيرها، لا تعامل كدروس تعليمية، بل كأساطير حية وكشخصيات طبيعية، وغياب الحكم المسبق عليها هو الثورة بعينها لأنها تنظر إلى تلك الشخصيات كبشر قبل أي تصنيف آخر يمكن أن يلحق بهم.

 

ويتسع عالم "وان بيس" للعمالقة، والرجال-الأسماك، والعابرين جنسياً والمثليين والمتمردين الغامضين وأبطال الساموراي والنينجا والرجال الأقوياء أصحاب العضلات وتتواجد فيه حتى جزيرة لـ"الدراغ كوين" ممن يمثلون إحدى أقوى مجموعات جيش التمرد العالمي ضد الحكومة الفاسدة. وأمام ذلك كله، لا يأتي الحكم أبداً من طاقم لوفي على كل تلك الشخصيات، بل يتم التعامل مع كل ما هو "مختلف" على أنه رائع ومدهش، وهذا الغياب للحكم بحد ذاته ثوري، لأنه رفض لإعادة إنتاج آليات الرقابة المجتمعية على الهوية الفردية، والأكثر إدهاشاً أنه يأتي من ثقافة يابانية عادة ما توصف بأنها متزمتة على الصعيد الاجتماعي، وفي زمن التسعينيات أيضاً.

 

تظاهرات الفلبين (غيتي)
الفلبين (غيتي)

 

وما يمنح "وان بيس" طاقتها الأسطورية ليس فقط طموحها، بل وضوحها العاطفي. كل ضربة، كل دمعة، كل سفينة تبحر نحو الخطر تحمل الرسالة ذاتها: لا أحد يملك البحر. لا أحد يملك الروح. كل فرد في الطاقم ذاق الألم. بعضهم نبذ، وآخرون استعبدوا، وكثيرون طاردتهم السلطات، لكن لا أحد استسلم. ندوبهم ليست علامات هزيمة، بل خرائط نجاة. يقاتلون ليس من أجل العروش أو الرايات، بل من أجل الحق في الوجود بشروطهم الخاصة.

 

ويعزز الإنترنت الحضور المتصاعد للسلسلة كرمز للاحتجاج. في "تيك توك" تنتشر مشاهد مونتاج للوفي وهو يصرخ من أجل الحرية، أو يقف وقبعته تهتز أمام أفق مشتعل، أو مشاهد لزورو وسانجي في مواجهات دامية لا تهاب الموت، أو لروبن وهي ترفض الانتحار وتتقبل أخيراً أنها تستحق الحياة بعدما عانت من النبذ منذ طفولتها بوصفها "الطفلة الشيطانة". وفي "يوتيوب" تصبح كل حلقة جديدة وكل فصل من المانغا، حفلة جماعية للمشاهدة والتعليق والتحليل. هذه الصور تصبح رموزاً عاطفية. تذكر المشاهدين أنهم ليسوا وحدهم، حتى عندما تخلو الشوارع، أو تزج الأصدقاء في السجون. عندما يبدو العالم لامبالياً، تتدخل الحكاية، لا كمهرب، بل كرمز سري للأمل والتضامن مع الذات ومع الآخرين.

 

تظاهرات بوليفيا (غيتي)
بوليفيا (غيتي)

 

وانزياح كل تلك الرموز من حيز الإنترنت نحو الشوارع يتخطى الإعجاب إلى نوع من التقمص الجماعي المتقاطع مع الواقع. لم يعد الأفراد يكتفون بمشاهدة "وان بيس" بل يعيشونه ويجدون فيه مرجعية ثقافية وفكرية تتخطى الدين والعائلة والمجتمع والأخلاق المجتمعية المبنية على النفاق. ويرون أنفسهم في القراصنة المهمشين، الأمراء الهاربين، المحاربين المكسورين. وفي زمن تقل فيه أدوات الأمل والخيارات الشخصية، تمنح الملحمة لغة وشكلاً وجرأة لمعركة غالباً ما تبدو خاسرة، كما أنها تصبح بديلاً للأديولوجيات السياسية والنظم الدينية البائدة، في زمن سقوط القوميات والأفكار الكبرى.

 

وهنا، تقدم "وان بيس" وغيرها من رموز ثقافة "البوب" المعاصرة ما لا تستطيع الأيديولوجيات السياسية والمثولوجيا الدينية تقديمه: كوناً أخلاقياً بلا محاكمة لأفراد معاصرين يجدون حتى في أحلك البحار التي تخوضها السلسلة، بوصلة إنسانية تشير نحو العدالة والحياة الأفضل فقط إن تجرأ أبطالها على اتباعها. 

 

وهذه السلسلة العبقرية تخاطب جيلاً يخنقه الدين والحروب والنفي والفقر، وتقول له: مازال بإمكانكم أن تحلموا. ليس بمعنى التفاؤل الساذج، بل بالإيمان بالذات أولاً، وبأن هنالك دائماً طريقاً آخر يمكن اتباعه مهما بدا مؤلماً، ومهما عنى ذلك التخلي عن الحياة اللحظية والعائلة والأصدقاء وفكرة الوطن وغيرها، لأن هنالك دائماً رفاقاً ينتظرون في مكان ما على مد الطريق. وأحياناً، هذا وحده يكفي للاستمرار. أحياناً، هذا هو الكنز الحقيقي.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث