حقيبة المدرسة..حمّالة الأثقال والكآبة

بسمة الخطيبالسبت 2025/10/25
الحقيبة المدرسية الشهيرة في اليابان واسمها "راندوسيرو"
الحقيبة المدرسية الشهيرة في اليابان واسمها "راندوسيرو"
حجم الخط
مشاركة عبر

كغالبية ما يأتينا من بلاد اليابان المذهلة، وصلتنا صور النسخة الأحدث من حقيبة المدرسة الابتدائيّة. مبتكرة، عمليّة، عصريّة، مصمّمة للكوارث... باختصار: أكثر من حقيبة. صُمّمت لتكون أكثر من حاملة للوازم الصفوف الابتدائيّة، ولتساعد الأطفال في المواقف الصعبة التي قد يتعرّضون لها، تحديداً الزلازل والفيضانات وعواقب الهلع الجماعيّ. فهي تطفو كطوق النجاة في حال طوفان المياه، ويساعد جهاز التعقّب فيها الأهل والمسعفين على تحديد أماكن الأطفال، وهي أيضاً تحتوي وسادة تحمي رؤوسهم في حال الزلازل، كما أنّها مصنوعة بمواد متينة تضمن استمراريّة استخدامها لستّ سنوات، أي طوال الفترة الابتدائيّة. 

 

حين هلّ العام الدراسي ووصلتنا الأخبار المتّصلة به، أذهلتني التقارير الخاصّة بحقيبة اليابان الابتدائيّة هذه. لم أفكّر في الطلّاب المحظوظين فقط، بل في مخترع الحقيبة ومصمّمها الذي كان من دون شكّ تلميذاً نبيهاً يهتمّ بمجتمعه ويقدّر انتماءه إليه. فكّرت فينا نحن، وما صنعناه لتلاميذ اليوم ولأبنائنا؟ وكيف أثّر تعليمنا قبل عقود -من مبنى المدرسة إلى المنهج والكتاب المدرسيّ والحقيبة- في حاضرنا. إيّ ضرر أصاب أدمغتنا وخيالنا وشوّه أرواحنا ليجعلنا عاجزين عن حلّ مشكلة بسيطة مثل "الحقيبة المدرسيّة" الثقيلة والمحشوّة بالكتب- وليس بالضرورة المعرفة وتحفيز المواهب والقدرات الذاتيّة ومهارت كثيرة - والتي شوّهت عظام ظهورنا وساهمت ربما في قمع خيالنا وتفكيرنا الإبداعي وطموحاتنا.

 

تذهب اليابان أبعد من جميع شعوب الكوكب المتحضّر. القيّمون على الطلّاب اليابانيين يقدّمون نموذجاً يقتدى به من قبل الأطفال، وهؤلاء الأطفال سيكبرون ويصيرون النموذج الخلّاق لغيرهم. ففي العمليّة التربويّة لا يكفي أن تقدّم المعلومة والطرق الحسابيّة والتقديرات، بل يجب أن تطبّقها مباشرة على يوميّات الطفل، ليشعر بأنّ العلم في خدمته تحت أيّ ظرف، ما يحتّم عليه احترامه ومحبّته. 

 

صراع الحقيبة والكتاب الإلكترونيّ

الأمر ليس كذلك في مدارسنا اللبنانيّة على سبيل المثال. الحقيبة المدرسيّة ما زالت كابوس الطفل، الكتب الثقيلة والدفاتر الكثيرة تُحشى في الحقيبة كما يُحشى دماغ حاملها بالمعلومات المجرّدة والجافّة.  

 

في العقدين الماضيين، حاولت مبادرات تربويّة حلّ معضلة الحقيبة المدرسيّة، والتخفيف من وزنها، لكنّها قُوّضت حين غزا الانترنت حياة أطفالنا واجتاح الكتاب الإلكترونيّ مصادر العلم والمعرفة وراجت تطبيقات التعليم الأونلاين. فقد حدث ردّ فعل عكسيّ، أعاد الكتاب الورقيّ والحقيبة المحشوّة إلى سلطتهما. العام الماضي، وبعد كتابه الخطير "الجيل القلق"، زفّ الباحث وعالم النفس الاجتماعيّ الأميركيّ جوناثان هايدت، للشعب الأميركيّ، خبر منع الحكومة للأجهزة الذكيّة في المدارس مطلع العام الدراسيّ 2024، وذلك بينما "التابلت" يكاد يقضي على الكتب الورقيّة تماماً، وقد مُنعت الأجهزة الذكيّة في عدد من مدارس دول أخرى أيضاً. اتّضح للعالم أنّ مشاكل الحقيبة التقليديّة أهون بكثير من مشاكل الحقيبة الإلكترونيّة والتعليم الإلكترونيّ. وإن كانت الأزمة الأعمق هنا هي مضمون العمليّة التعليميّة، إلّا أنّ الوسيط لا ينفصل عنها. الوسيط، سواء كان الكتاب بنسخته الورقيّة أو الإلكترونيّة، أو الحقيبة بوزنها الزائد أو الخفيف، بموادها الفاخرة والباهظة أو موادها البسيطة الأوّليّة، تبقى جميعها مؤثّرة في علاقة الطفل بالمؤسّسة التعليميّة وأنظمتها. 

 

تمرّد الطالبات

في إحدى سنوات دراستي المتوسّطة، تمرّدت الطالبات على الحقيبة، وفضّلن جمع الكتب في حزام من المطّاط كما يفعل الفتيان. كان الفتيان يعتبرون حقائب الكتف أنثويّة الطابع، كما كانوا أكثر تمرّداً من البنات على القوانين والأنظمة المدرسيّة، ويعتبرون تمرّدهم فحولة مبكرة. ما حدث أنّ البنات لحقن بهم. طبعاً تطلّب الأمر جرأة كبيرة منهنّ. وحين رحن يشجّعن بعضهنّ البعض، حارب النُّظّار ظاهرة المطّاط وتمّ الترويج لفكرة أنّها تعني إهمال الطالبة وعدم اكتراثها بوظيفة المدرسة الرئيسيّة: التعلّم، لأنّ تلك "المغّيطة" لن تتسع لكلّ الكتب والدفاتر اللازمة. 

 

من جهتنا، ندمنا على فكرة المطّاط تلك لسبب آخر، وهو أنّ الحقيبة تحفظ خصوصيّاتنا وأسرارنا الصغيرة، وتخفي أسرار مطابخ أهلنا وما جلبناه من طعام كمّاً ونوعاً، من "عروس الزعتر" المتقشّفة إلى الكرواسان والإكلير الباهظين، وفيها نخفي جزءاً من عالمنا عن عيون الذكور، وهي لعبة لطالما استهوتنا. لذا عدنا نحمل حقائبنا. لم نشعر بالندم فحسب، بل بالخزي. فلم يخلُ بيت من حكاية ترويها الأمّ عن حقيبتها منتصف القرن العشري،ن والتي كانت غالباً من الكتّان الخام أو أي نسيج مستعمل تعيد الأسرة تدويره. أرادت الأمّهات أن نمتنّ للنعمة التي بين أيدينا، فحقائبنا ترف كبير علينا أن نجتهد ونكابد لنستحقّه. 

 

بين الجندر والتجارة 

مع الوقت باتت حقائب الطلّاب أكثر ألواناً ورسوماً، واستثمرت في الشخصيّات الكرتونيّة الرائجة، ودخلت كأيّ سلعة أخرى في اللعبة الاستهلاكيّة، وصارت إحدى أدوات إثبات الهويّة الجندريّة، كما هي أداة لإثبات جوانب أخرى مثل الطبقة الاجتماعيّة. فرغم أنّ الزيّ المدرسيّ نجح في التمييز بين البنات (اللون الزهريّ ومشتقّاته) والأولاد (اللون الأزرق وأشقّائه) إلّا أنّ شيئاً لم يمنع أن يعلن الطفل ثراءه عبر حقيبة ثمينة من الجلد الأصليّ وأن يقنع الطفل الفقير بحقيبته بخسة الثمن. 

 

الحقيبة دخلت في المنافسة المستعرة بين المناهج الأجنبيّة اللاعبة على الأرض الوطنيّة، فمناهج بعينها مثل الفنلنديّة والكنديّة شجّعت إبقاء الكتب في الصفّ، والمناهج الأميركيّة مع تخفيف عددها قدر الإمكان، والاعتماد أكثر على الملفّات المرسلة عبر التطبيقات التعليميّة، بينما يرزح أطفال المنهج اللبنانيّ تحت وطأة كيلوهات عديدة من الكتب والدفاتر. جدير بالذكر أنّ المناهج الأجنبيّة أعلى كلفةً، وهي محصورة في حمَلة الجنسيّات الأجنبيّة ومن أقاموا سنتين على الأقلّ خارج لبنان وتعلّموا في مدارس أجنبيّة. 

 

حقيبة اليتيمتين

تقاسمت أمّي حقيبة الصفّ الأوّل المدرسيّة مع أختها التي تكبرها بثلاث سنوات. ذهبتا معاً إلى الصفّ الأوّل الذي كان يقبل كلّ تلميذ جديد مهما كان عمره. خاطت لهما جدّتي الأرملة المزارعة، كيس قماش وصنعت له مسكَتين. تشاجرت الأختان حول من تمسك الكيس. لكنّ الحلّ كان بديهيّاً، أمسكت كلّ منهما بإحدى أذُنَي الكيس، وطارتا به بسعادة لا تُوصف إلى المدرسة والتي كانت غرفة مستأجرة في بيت أحد أبناء القرية. اليوم، لا يحلم أطفالنا أن تحميهم الحقيبة من الكوارث الطبيعيّة كما تفعل في اليابان، ربّما يريدون فقط ألّا تكون جزءاً من المشكلة، كالتنمّر والتفرقة الطبقيّة والحشو التعليميّ وآلام الظهر. ربّما يحتاجون أن تكون الحقيبة رفيقة مشوار تعليميّ غير كئيب أو محبط. أتخيّل أنّ أيّ حقيبة في العالم، بما فيها حقائب اليابان العبقريّة، لم تعرف سعادة كتلك التي وصلتها من كفّي تينك الطفلتين اليتيمتين، أمّي وخالتي، قبل ستّة عقود. كان يمكن لحقيبة المدرسة في بلادنا إذاً أن تُسعد طفلاً، وهذا دور آخر تخلّت عنه.   

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث