استُلهمت "نظرية المؤامرة" من تلك الزاوية الغامضة في النفس البشرية التي تخشى الفوضى، وترى في كل صدفةٍ خيطًا خفيًّا يربط الأحداث بفاعلٍ مجهول. البشر، منذ الوعي، لم يحتملوا أن تكون الكوارث عبثية، فنسجوا حولها قصصًا لتسكين الرعب واختراع المعنى. وُلد بعدها علمٌ شعبيّ لتفسير المجهول. في كل أزمةٍ عالمية، ثمّة من يرى ظلّ جهةٍ تُخطّط، وتكتب في الظلام ما نقرأه نحن في النور.
نعرف أن الإنسان كائنٌ قصصيّ، ولهذا منحته نظرية المؤامرة ما تمنحه الرواية لقارئها: حبكة، وأبطال، وأعداء، ونهاية تسبغ على الفوضى شكلاً قابلاً للفهم. ولهذا أيضًا، ازدهرت كتبٌ وأفلامٌ وسيرٌ تدور في الفلك ذاته، لكن أحداً لم يكتب عن المؤامرة كما كتبها روبرت شيا وروبرت أنتون وولسون في The Illuminatus! Trilogy. ففي ذاك الكتاب الملهم، تحوّلت المؤامرة من "فرضية" إلى كونٍ حكائيّ مهووسٍ بالحقائق الزلقة، المراوغة، عالمٍ من مرايا لا ينتج واقعًا، بل انعكاسًا كسولًا لذاك الواقع.
عن المعنى
Illuminatusكلمةٌ لاتينية تعني "المستنير"، اشتُقّت من الفعل illuminare، أي إدخال النور والإبصار بعد العمى. استُعملت في النصوص الغنوصية لقبًا لمَن نال المعرفة السرّية وتحرّر من ظلمة الجهل. انتقلت في القرن الثامن عشر إلى تسمية جماعةٍ سرّية هي Illuminatiالتي أعلنت السعي إلى تنوير البشر وتحريرهم من سلطة الكنيسة والإقطاع. تتجلّى المفارقة هنا: كلمةٌ وُلدت من النور صارت رمزًا للظلام، والاستنارة انقلبت هيمنة، و"المستنير" أصبح من يملك المعرفة ليحجبها لا ليشاركها. من هذا الانقلاب وُلدت جاذبية نظرية المؤامرة: حكاية تبدأ بطلب الحقيقة وتنتهي بالريبة من كلّ حقيقة.
في Illuminatus!لا توجد مؤامرةٌ واحدة، بل الملايين منها، تتشابك مثل خلايا دماغٍ ممسوس. كلّ جملةٍ تُكذّب سابقتها، وكلّ كشفٍ يلد حجابًا جديدًا. تظهر الكلمة الغامضة "fnord"لتزرع القلق في القارئ من دون أن يفهم معناها، كأنّها تذكّره بأنّ السلطة الحقيقية هي التي لا تُرى، وبأنّ الخوف يسكن بين الجُمل لا في معناها. في عالم الرواية، تُعلّم المدارس الأطفال ألّا يروا هذه الكلمة، فيكبرون عاجزين عن ملاحظتها، لكن أجسادهم ترتجف كلّما مرّت أمامهم. هكذا تزرع السلطة الخوف في اللغة نفسها، وتجعل الطاعة ردَّ فعلٍ لا قرارًا.
تلك الكلمة أصبحت رمزًا لما يختبئ في الوعي الجمعي: كلّ ما نتعلّم أن نتجاهله كي نعيش. fnordهو النّص الخفيّ في الصحف، في الشعارات، في الخطاب السياسي، في النبرة التي تزرع القلق من دون سبب. إنّه الخوف اللغويّ الذي يسكن المجتمعات، ويجعلها تطيع من دون أن تُدرك لماذا.
حين نقرأ Illuminatus!كنصٍّ فلسفيّ لا كخيال، ندرك أنّها لم تمجّد المؤامرة بل سخرت من "شهوتنا للتصديق". فربّما المؤامرة الوحيدة، كما يقول أحد أبطالها، هي إيماننا بأنّ هناك مؤامرة واحدة. الرواية لا تبحث عن الحقيقة، بل تكشف لذّة مطاردتها، والسحر الكامن في فكرة أنّ العالم يمكن اختزاله في خطّةٍ مهما كانت غامضة.
هذه اللذّة هي ما يفسّر جاذبية المؤامرة. إنّها تمنح الضعيف يقينًا، والمهمَّش معنى، والسياسيَّ ذريعة. في لحظةٍ ما، تتحوّل الحكاية إلى أداة حكم: تُنظّم المجتمع بالخوف، وتُفسّر كلّ خللٍ بأنّه خطة، وكلّ احتجاجٍ بأنّه اختراق. وهكذا، كما في الرواية، يصبح الشعب شريكًا في لعبة المرايا، يطارد سرًّا لا وجود له، ليحتمي من الفراغ الذي يخلّفه غياب الثقة.
حين نوجّه هذه العدسة إلى سوريا، نرى مشهدًا يليق بأن يكون فصلًا إضافيًا من Illuminatus!؛ بلدٌ عاش نصف قرنٍ مؤمناً بأنّ المؤامرة تتنفّس في شوارع دمشق قبل أن يُخطَّط لها في واشنطن. كلّ حدثٍ سياسيّ أو احتجاجٍ شعبيّ كان يُعاد تأويله بوصفه جزءًا من شبكةٍ معاديةٍ لا تنام. الخوف أصبح دينًا يوميًا، والتعليم تمرينًا على الشكّ، والنظام لم يحتجّ إلى كثير من الجهد، إذ صار الشعب يكتب الرواية نيابةً عنه، يكمّل الفجوات، ويبرّر القمع بحجّة التصدي للمؤامرة.
في عهد حافظ الأسد، وُلدت اللغة المؤامراتية، واستمرت، كأداةٍ لتثبيت السلطة: المعارضة "أدوات"، والاحتجاج "مؤامرة"، والفقر "حصار خارجي". وحين سقط النظام، لم تسقط اللغة. ظلّت تتنفّس بين البيانات والخطابات، كأنّ المؤامرة لم تكن سياسةً بل جينًا ثقافيًّا انتقل بالوراثة. الانتخابات الانتقالية، البرلمان المعيَّن جزئيًا، الهدن الغامضة، التحالفات المتقلّبة، كلّها أعادت إنتاج ذلك الإيقاع القديم: لا حدث بريئاً، ولا قرار نقيّاً. الشكّ صار الغلاف الرسميّ للوعي العام.
إنّ ما يحدث اليوم في سوريا ليس انتقال سلطةٍ فحسب، بل انتقال رواية. البلد الذي عاش نصف قرنٍ داخل حكايةٍ واحدة، يحاول أن يكتب نفسه بلغةٍ جديدة، لكنّ الحبر ما زال ملوّثًا بالريبة. في هذه اللحظة، يصبح من الصعب التمييز بين الحذر المشروع، وإعادة إنتاج الوسواس التاريخي. المؤامرة، كما في Illuminatus!، تمثّل حالة وعي، عشقًا "مسمومًا" بين السلطة والمجتمع.
ومع ذلك، يطلّ الأمل من بين الشقوق. ربّما تسنّت استعادة المؤامرة من يد السلطة لتُستخدم أداةً للمساءلة، علّها تُبطل سحرها القديم وتكسر خوفها اللغوي. المجتمع الذي يتعلّم أن يطالب بالدليل، لا بالأسطورة، هو مجتمعٌ يبدأ في شفاء ذاكرته.
سوريا اليوم لا تحتاج إلى "تفكيك نظريات المؤامرة"، بل إلى تفكيك لذّتها! فالخطر ليس في تداول النظريات الوهمية، بل في الطمأنينة التي تمنحها. فحين نكفّ عن البحث عن اليد الخفية، ونبدأ بمراقبة اليد الظاهرة التي تكتب وتوقّع وتُخفي الملفات، سنعرف أنّ زمن الحكاية القديمة قد انتهى. وحينها، سيغدو"fnord" السوري ـ تلك الكلمة التي كانت تزرع القلق في كلّ جملة ـ إشارةً ضوئيةً صغيرة في آخر النص، تقول لنا بهدوء: الآن يمكنك أن ترى.
