قفز معظم الاعلام الأجنبي فوق القصص الانسانية وتداعيات الحرب الاسرائيلية على القطاع خلال عامين، وذهب باتجاه شقين، أولهما "الإنجاز" الأميركي بوقف الحرب، وثانيهما ملف إعادة الاعمار، في واحدة من قصص الاجتزاء الاعلامي وتحوير الأنظار باتجاه المعطى السياسي.
بعد عامين من الحرب والدمار والإبادة التي طاولت كل جوانب الحياة في قطاع غزة، جاء إعلان وقف إطلاق النار واستئناف المساعدات الإنسانية بإشراف الأمم المتحدة خطوة طال انتظارها، بعد أن كشفت عن عمى العالم تجاه واحدة من أكثر المآسي الإنسانية فداحة في العصر الحديث.
ومع ذلك، فإن ما بدأ يدخل من مساعدات ما زال يشكّل نسبة ضئيلة جدًا من الاحتياجات الفعلية للقطاع، ويجري إدخاله تحت تحكّم وإملاءات إسرائيلية تُمارَس كأداة ابتزاز سياسي وإنساني، وهو ما يتم انتقاصه من تغطية الاعلام الأجنبي، في وقت كانت هذه القضية لتُخفى، لولا الاضاءة الاعلامية العربية عليها، وتعميمها على أوسع نطاق لمخاطبة ضمير العالم.
لكن ما يبدو بداية انفراج إنساني يخفي في طيّاته تعقيدات سياسية واقتصادية أعمق، خصوصًا مع طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لما سُمّي بـ"السلام من أجل الازدهار"، وهي الخطة التي يُفترض أن تمهّد لمرحلة إعادة الإعمار.
غياب الفلسطينيين
منذ البداية، بدت الخطة مثخنة بالتناقضات ومتجاهلة لواقع الفلسطينيين ومعاناتهم، إذ تم تجاوز القرار الفلسطيني تماماً في رسم ملامحها وتحديد أولوياتها. فبدلاً من أن تكون عملية إعادة الإعمار منطلقة من الإرادة الفلسطينية وتحت قيادتها، جرى وضع مصير القطاع في يد مؤسسات مالية وشركات دولية، لتتحول العملية إلى مشروع تُديره أطراف خارجية تحت مظلة النفوذ الأميركي. ويتجاهل ذلك أن إقصاء الفلسطينيين عن اتخاذ القرار في ما يخص مستقبلهم يُفقد الإعمار جوهره الوطني، ويحوّله إلى أداة لإدارة الأزمات، لا إلى خطة تعافٍ حقيقية، خصوصاً حين تُربط المساعدات بشروط سياسية وأمنية تقيّد السيادة الفلسطينية.
الاقتصاد في قلب الخطة
تعتمد الخطة على ما يُعرف بـ "خطة التنمية الاقتصادية لقطاع غزة"، وهي رؤية تضع القطاع الخاص العالمي في موقع القيادة، وتمنح الشركات الكبرى الدور المركزي في إعادة الإعمار. غير أن غياب التفاصيل المتعلقة بالرقابة والحوكمة يُثير المخاوف من تكرار تجارب سابقة، حيث تحوّلت عمليات الإعمار إلى مشاريع استثمارية مغلقة استفادت منها الشركات أكثر مما استفاد منها سكان غزة المثقلون بالجراح وآلام الفقد.
ويرى اقتصاديون أن هذا النموذج قد يفضي إلى ما يُعرف بـ"العلاج بالصدمة"، عبر تطبيق اقتصاد حر ومفتوح يفتقر إلى الضوابط الاجتماعية والرقابية، مما يُضعف قدرة الفلسطينيين على بناء قاعدة اقتصادية مستقلة ويعمّق تبعيتهم السياسية والمالية.
إعمار على أنقاض العدالة
وبمعزل عن إخفاء الاعلام الأجنبي للوقائع، تشير تقارير دولية إلى تورط شركات أجنبية وإسرائيلية في تمويل مشاريع الاستيطان والمشاركة في اقتصاد الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية، لتعود اليوم إلى الواجهة ضمن مبادرات إعادة إعمار غزة. هذا التناقض يثير تساؤلات جوهرية حول غياب المساءلة، وحول إمكانية بناء مستقبلٍ عادل بأدواتٍ كانت شريكة في تكريس الظلم. فالإعمار لا يكتسب شرعيته من حجم الاستثمارات، بل من نزاهة المشاركين فيه واحترامهم لحقوق الإنسان. ومن دون ضوابط واضحة تضمن الشفافية والمحاسبة، سيبقى الإعمار امتدادًا لاقتصاد القوة، لا خطوة نحو تعافٍ حقيقي يعيد للفلسطينيين حقهم في الحياة والعدالة.
المنطقة الاقتصادية الخاصة: فرصة أم فخ؟
من أبرز بنود الخطة مقترحاتها إنشاء منطقة اقتصادية خاصة (SEZ) في غزة تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية عبر إعفاءات ضريبية وجمركية. ورغم الخطاب الرسمي الذي يعد بخلق فرص عمل وتطوير بنية تحتية جديدة، إلا أن التجارب السابقة تشير إلى أن مثل هذه المناطق غالباً ما تنتج اقتصاداً هشّاً يعتمد على العمالة الرخيصة، ويفتقر إلى الضمانات العمالية والحماية القانونية.
ويحذّر متخصصون من أن هذه الصيغة قد تؤدي إلى عزل غزة اقتصادياً عن محيطها الفلسطيني، وتحويلها إلى "منطقة تصنيع منخفض الكلفة" مرتبطة بالسوق الإسرائيلية أو العالمية، دون أي مردود سيادي أو تنموي حقيقي.
لا يمكن لأي خطة سلام أن تنجح ما لم تُبنَ على أسس العدالة واحترام حقوق الإنسان وحق الفلسطيني في أرضه وقراره. فالإعمار الحقيقي ليس في الحجر والإسمنت، بل في استعادة السيادة والقدرة على اتخاذ القرار بحرية. إن غزة التي صمدت تحت الحصار والحرب لا تحتاج وصاية جديدة باسم التنمية أو الازدهار، بل تحتاج اعترافًا بحقها في أن تكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في مستقبلها. ومن دون حضور القرار الفلسطيني في كل خطوة مقبلة، سواء في الحكم أو في الإعمار، سيبقى ما يُسمّى بالسلام مجرّد غطاءٍ لمشاريع نفوذ، لا طريقًا إلى حياةٍ حرة وعادلة، وهي مهمة تحتاج الى مؤازرة إعلامية على نطاق دولي أيضاً.
