غالباً ما يتخيل الإنترنت كمساحة لا يمكن تدميرها، شبكة ضخمة يصعب انهيارها، وأداة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها. لكن كل اختراع بشري يحمل داخله احتمالية تآكله من الداخل. ويبدو أن هذه العملية بدأت فعلاً. ما كان يوماً فكرة هامشية ونظرية مؤامرة أصبح اليوم في صلب النقاش العام من طرف خبراء يحذرون من "موت الإنترنت".
وتفترض النظرية أن الإنترنت الذي عرفه الناس في بداياته لم يعد موجوداً، وأن الصوت البشري تلاشى وسط ضجيج الروبوتات والأنظمة المؤتمتة والمحتوى المنشأ بواسطة الذكاء الاصطناعي. وخلال الأشهر الماضية، عادت النظرية التي كانت تثير السخرية في المنتديات بوصفها مؤامرة كلاسيكية ضحلة، إلى الواجهة مع تصريحات علنية لشخصيات تقنية بارزة، وصدور بيانات تظهر حجم التغييرات الجذرية في طبيعة النشاط عبر الإنترنت. بالنسبة للبعض، تبقى هذه مجرد مؤامرة. أما بالنسبة لآخرين، فهي وصف دقيق لتحول ملموس يمكن رصده بالأرقام.
"لا أشخاص حقيقيين في الإنترنت"
وظهرت "نظرية موت الإنترنت" للمرة الأولى العام 2021 تقريباً ضمن منتديات إلكترونية مجهولة، ربما منتديات خاصة قبل أن تتسرب نحو مواقع مثل "ريديت". وفكرتها الأساسية كانت صادمة: أغلب ما ينشر على الإنترنت لم يعد صادراً عن أشخاص حقيقيين، بل عن برامج وروبوتات وأنظمة تحاكي النشاط البشري. اتهم أنصار النظرية الحكومات والشركات والمنصات الكبرى بأنها حولت الإنترنت إلى فضاء تتحكم فيه الآلات وتحاكي فيه المحادثات البشرية بشكل مصطنع، من أجل برمجة الإنسان والسيطرة، بشكل مماثل لما كان يشاع عن وسائل الإعلام التقليدية سابقاً خصوصاً في فترة الحرب الباردة.
كان أنصار النظرية يعتقدون أن هناك شبكة ضخمة ومنسقة من الروبوتات تحرك النقاشات العامة وتشكل الاتجاهات وتخلق وهماً بوجود مجتمعات حقيقية لم تعد موجودة في الواقع. وقال بعضهم أن جزءاً كبيراً من مستخدمي مواقع التواصل ليسوا أشخاصاً حقيقيين بل حسابات مبرمجة، ورغم أن كل تلك التفاصيل موجودة ولا يمكن إنكارها، إلا أن النظرية كانت تبالغ من دون أرقام طبعاً بشكل أقرب لإثارة المخاوف منه إلى توليد نقاش عقلاني، كما أن ربطها بجهات عليا تتحكم بالبشرية حولها إلى مادة للسخرية، لا أكثر.
وبحسب تقارير حديثة صادرة عن شركة "Imperva" الأميركية الرائدة في الأمن الرقمي، شكلت الروبوتات 51.8% من مجمل حركة الإنترنت العام 2024، وهي المرة الأولى التي يتفوق فيها النشاط الآلي على النشاط البشري. وتشمل هذه النسبة الروبوتات "الجيدة" مثل محركات البحث، وكذلك الروبوتات "السيئة" التي تستخدم في البريد المزعج، والقرصنة، والتلاعب، وجاء ذلك مدفوعاً بأنظمة الذكاء الاصطناعي اللغوي تحديداً التي باتت منتشرة لتدريب برمجيات مثل "تشات جي بي تي" من المحتوى الموجود أصلاً عبر الإنترنت.
ولا يعني ذلك أن الروبوتات تنتج أغلب المحتوى، لكنها تتحكم بشكل متزايد في آلية انتشاره ووصوله. ورغم أن الصوت البشري مازال موجوداً، لكن حجم تأثيره يتراجع أمام الآلات. والأكثر أن النسبة السابقة ستكون في تزايد متسارع العام 2025 وما بعده، بشكل يجعل الإنترنت مكاناً آلياً يصنع فيه الذكاء الاصطناعي المحتوى الذي يتلقاه روبوتات آلية، وهنالك أمثلة كثيرة على نشاطات تتبادل فيها تلك البوتات النقاشات والتعليقات والنقرات.
فقدان الجوهر الإنساني
وما حول النظرية إلى النقاش العام كان تصريحات الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي" سام ألتمان، أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، بأن المنصات الرقمية "أصبحت تبدو مزيفة" في ظل الارتفاع المتسارع لنشاط الروبوتات وتفاعل نماذج الذكاء الاصطناعي مع بعضها البعض. وفي الأسبوع نفسه، صرح مؤسس "ريديت" أليكسس أوهانيان عن فقدان الإنترنت تدريجياً لجوهره الإنساني، والتصريحان أثارا النقاش حول موت الإنترنت في وسائل الإعلام الكبرى.
هذه النوعية من التصريحات كانت تعتبر في السابق جزءاً من خطاب المؤامرة. أما اليوم فهي تعبر عن قلق حقيقي من حجم الأتمتة المتزايد. فالمؤامرة لم تثبت، لكن الشروط التي جعلت الناس يصدقونها باتت ملموسة، كما أن حجم التأثير المتزايد للبوتات الرقمية، خصوصاً من أجل التأثير السياسي لم يعد جديداً بل كان حاضراً طوال العقد الماضي على الأقل، خصوصاً عبر نشاطات للجيوش الإلكترونية التابعة لدول مثل روسيا والصين وإيران، التي حاولت مراراً التأثير على الديموقراطيات الغربية، وثارت شبهات وتحقيقات جنائية حول تلاعبها بنتائج الانتخابات في دول مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، على سبيل المثال.
والجزء الواقعي في هذه النظرية تؤكده بيانات متعددة من مصادر مستقلة: حركة الروبوتات تجاوزت حركة البشر، والخوارزميات هي التي تتحكم اليوم بما يعرض أمام المستخدمين وما يخفى عنهم. كما باتت نماذج الذكاء الاصطناعي قادرة على توليد نصوص وصور وأصوات مقنعة، وتستخدم شبكات منظمة من الروبوتات لأغراض دعائية وتضليلية، خصوصاً في البيئات السياسية الهشة أو القمعية. أما الجانب المؤامراتي فيفترض أن الإنترنت بأكمله أصبح مزيفاً، وأن المستخدمين الحقيقيين اختفوا. وهذا غير صحيح. البشر مازالوا ينتجون أغلب المحتوى، لكنهم محاصرون داخل فضاء تتحكم فيه الآلات.
وفيما يتم الحديث عن ذلك غالباً برومانسية وحنين للماضي وخوف من المستقبل بوصفه خيالاً علمياً، يوجد واقع سياسي واجتماعي مواز تعمل فيه الأنظمة الآلية على تضخيم المشاركات الأعلى صوتاً والأكثر غضباً، ما يجعل الأصوات العقلانية أو المهمشة من المعارضين السياسيين أو أفراد مجتمع الميم وناشطي حقوق الإنسان وغيرهم، مستهدفة أو مستبعدة، وهو ما يلاحظ في مناطق النزاعات مثلاً كما الحال في الشرق الأوسط حيث تتباهى الدول بجيوشها الإلكترونية ويتباهى الأفراد بالانضمام إليها أو الثناء على نشاطها، علناً.
روبوتات تصنع الرأي الشعبي
ويمكن للروبوتات بالتالي أن تصنع "الرأي الشعبي" وتخلق وهم الإجماع، وهو أمر قوي في الدول حيث تستخدم السلطة أو الجهات الفاعلة الخاصة، الاهتمام كسلاح. في الشرق الأوسط، هذا ليس افتراضيا: بل تم استخدام شبكات منسقة لمضايقة الصحافيين، والتغطية على الهاشتاعات الاحتجاجية، وخلق روايات كاذبة تبرر القمع، كما الحال في سوريا الأسد، على سبيل المثال.
لكن تحميل المسؤولية للآلات وحدها يخفي حقيقة أعمق: التراجع بدأ من البشر أنفسهم. فالأنظمة الآلية تتغذى على ما تكافئه المنصات. والمنصات تكافئ الانخراط وليس المعنى. والانخراط، في شكله الخام، بات يولد من الغضب والخوف والانفعال، وتحول الإنترنت تدريجياً منذ العام 2010 إلى مكان تحكمه السلبية والعواطف السامة التي تولد النقرات وتخلق أجواء غير مريحة خصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وزادت شبكات الفيديو القصيرة من المشكلة عبر تكثيف مضخم للإثارة الحسية التي بدورها أثّرت في "مدى الانتباه" (Attention span) وهو المدى الزمني التي يستطيع فيها الشخص التركيز على نشاط واحد.
والحال أن هذه الحلقة المغلقة بين سلوك المستخدمين، وحوافز المنصات، وتعزيز الخوارزميات، خلقت بيئة رقمية تكافئ العدائية وتعاقب التعقيد. الكذب ينتشر أسرع من التصحيح. والضجيج يتغلب على النقاش. ومع الوقت، تحولت الفضاءات الرقمية إلى جزر خوارزمية منعزلة وغرف صدى تتكرر فيها أفكارهم وتتضخم ضمنها مخاوفهم، ما يخلق مزيداً من التطرف في الحياة الواقعية، بشكل يمكن ملاحظته عالمياً مع بروز تيارات اليمين المتشدد واليسار المتشدد.
ولعل أكثر ما يثير الانتباه في كل ذلك، أن الإنترنت الذي لطالما وعد بـ"يوتوبيا افتراضية" بات مجرد مثال آخر عن النزعة البشرية للتدمير. وأمام ذلك ربما يمكن الإجابة عن سؤال فلسفي يحضر دائماً في المخيلة البشرية عن طبيعة الإنسان وماهيته ضمن الطبيعة، فيما يمكن رده بغطرسة دينية إلى الاصطفاء والخلق على صورة الإله الأسمى أو بالفلسفة التي ترد تلك الطبيعة إلى اللغة والعلاقات الاجتماعية والتفكير والوعي والمنطق، وغيرها من الصفات، لكن التدمير ربما قد يكون الجواب الأكثر دراماتيكية لأنه شيء يبرع به البشر إلى حد مواصلتهم تدمير الكوكب الوحيد الذي يعيشون فيه بدليل مشكلة التغير المناخي والانهيار البيئي، وحتى تدمير أنفسهم، على المستوى الشخصي والجمعي.
الإنترنت تختنق ببطء
ربما يتجه النقاش السابق نحو العدمية، لكن الإنسان امتلك دائماً القدرة على تدمير ما يصنعه وما يحيط به في الطبيعة، والغابات والمدن والنظم السياسية ليست استثناء. والإنترنت ربما يكون التالي. لكن هذا لا يعني أن النهاية حتمية بقدر ما هي تساؤل للمستقبل، ومهما كان الجواب عنه يبقى موت الإنترنت حاضراً ليس فقط في الأحداث الكبرى بل يمكن رؤيته في تفاصيل الحياة اليومية. مثلاً، بات البحث عن وصفة طعام بسيطة مثلاً يقود إلى صفحات مثقلة بالإعلانات، والنوافذ المنبثقة، ومقاطع الفيديو التي تشغل تلقائياً. قبل الوصول إلى الوصفة، على المستخدم أن يمر عبر قصة عائلية لا تهمه، وروابط اشتراك، وصور لا تنتهي. وفي النهاية تكون الوصفة غير دقيقة أو مضللة منذ البداية لأن عنوانها كان مجرد طريقة للفت انتباه الروبتات (SEO) لا أكثر.
هذه التجربة الصغيرة تعكس المشكلة الكبرى. لم يعد البحث يرتبط بالجودة أو الفائدة. فالمحتوى يصمم لمحركات البحث، لا للمستخدمين. ترتفع الصفحات في الترتيب لأنها محسنة للآلة، لا لأنها أفضل. وهكذا يتراجع الصوت الحقيقي بين أكوام الإعلانات والتلاعب بالانتباه. الإنترنت لا يموت دفعة واحدة، بل يختنق ببطء، من دون الحديث عن الحجب والإخفاء (Shadow Banning) وغيرها من الأساليب التي تمارسها شركات التكنولوجيا ضد مجتمعات معينة أو ضمن بيئات محددة، سياسياً واجتماعياً.
ولعل ما يجب التساؤل عنه إذاً: "هل يهم أن يكون الإنترنت ميتاً؟" خصوصاً أمام المخاوف الكثيرة مؤخراً من احتمالية أن يقتل الذكاء الاصطناعي الإنترنت. لكن ماذا لو كان الإنترنت، بصورته المثالية، قد مات فعلاً؟ الأتمتة والعدائية والتضليل فرغت الفضاء الرقمي من روحه البشرية. ما تبقى هو هيكل ضخم، نشط ومؤثر، لكنه مفصول عن الإنسان، قبل ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي بصورته الحالية تحديداً.
طبعاً، الإنترنت الميت ليس صامتاً بل هو أكثر ضجيجاً من أي وقت مضى. لكن هذا الضجيج لا يصدر عن البشر، بل عن أنظمة آلية، هدفها ليس الفهم، بل السيطرة على الانتباه. وهذا يخلق تحدياً عميقاً للصحافة والثقافة والحياة العامة: كيف يمكن إنتاج المعنى في فضاء لم يعد يكافئه؟ وكيف يمكن الإحساس بالإنجاز لمن يعمل ضمن هذه البيئة إن كان المحتوى البشري مدفوناً أصلاً؟ وهل يمكن الثقة بأرقام المشاهدات والنقرات إن كان معظمها آتياً من بوتات آلية وهو سؤال يحضر منذ أكثر من عشر سنوات بخصوص أرقام مشاهدة الفيديوهات الغنائية مثلاً في "يوتيوب" خصوصاً في الشرق الأوسط حيث يتهم النجوم بشراء المشاهدات الوهمية.
بالتالي، فإن موت الإنترنت ليس لحظة واحدة بقدر ما كان عملية اختناق بطيئة تحت وطأة الأتمتة والسموم البشرية والإهمال وسيطرة شخصيات مؤثرة مثل رجل الأعمال اليميني المتطرف أيلون ماسك على منصات كبرى. وبذلك لم يعد السؤال يتمحور حول ما إذا كان يمكن إنقاذه، بل ما إذا كان أحد أصلاً يريد إنقاذه لأن الشفافية حول نشاط الروبوتات، ومحاسبة المنصات على نماذجها الربحية، وخلق مساحات تواصل حقيقية تعطي الأولوية للصوت البشر كلها أدوات قادرة على مواجهة التآكل. لكن هذا لا يتطلب تقنية فحسب، بل قراراً سياسياً وإرادة جماعية غائبة أمام فضاء لا يمكن ضبطه أصلاً.
كيان مستقل!
وبما أن موت الإنترنت لا يعني توقفه بقدر ما يعني وفاته كفضاء إنساني، لأن الخوادم تعمل وتزدهر والشبكات تنبض بالتفاعلات، فإن ذلك الفضاء يصبح مساحة للأنشطة الآلية التي تتفاعل، لكن السؤال هو هل يبقى وجودها مرتبطاً بالبشر أصلاً أم أنها ستستمر ببساطة من دون الحاجة إلى حضور بشري؟ وهل يعني ذلك كله أن البوتات التي تتطور لحظياً، خصوصاً أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ستكون قادرة على توليد وعي خاص بها؟ وماذا يعني ذلك أصلاً للأسئلة الفلسفية السابقة عن معنى الإنسانية؟ والأكثر إثارة للانتباه ماذا يعني ذلك الوعي إن كان متولداً من بيئة سامة وتنافسية وقائمة على المخاوف والعواطف السلبية قبل أي شيء آخر؟
ويقول خبراء أن الروبوتات والذكاء الاصطناعي تتفاعل مع بعضها البعض بالفعل. تجمع البيانات، تحللها، وترد على بعضها، من دون وجود بشري حقيقي في كثير من الأحيان. ومع مرور الوقت، ربما تنتج هذه التفاعلات أنماطاً وقرارات لا يراها أحد ولا يفهمها أحد. هذه أرض رقمية جديدة، لا تحكمها دول، ولا تقوم على ثقافة بشرية مشتركة، بل على تفاعلات آلية مغلقة.
هذه ليست أسئلة نظرية. إنها أسئلة عن مستقبل يتشكل الآن. ربما لن ينهار الإنترنت فجأة. ربما سيبتعد عنا ببساطة، ويتحول إلى كيان غريب، مستقل، ولا مبال بنا، أو ربما يبتعد عنه الأفراد طوعياً مع حديث ملايين الأفراد عن تجنبهم لمواقع التواصل الاجتماعي وإغلاق حساباتهم في منصة هنا أو منصة هناك، أو حنينهم لزمن الإنترنت الأبسط عندما كان من الممكن الحديث مع إنسان آخر أو مشاهدة إنسان آخر لمعرفة تجربته الحياتية حول موضوع ما، مهما كان بسيطاً أو معقداً، من تحضير وصفة طعام إلى الجغرافية السياسية.
