النشيد الوطني السوري الجديد: نقاش السلطة وحدود التمثيل

مصطفى الدباسالأربعاء 2025/10/22
علم الثورة السورية.jpg
حجم الخط
مشاركة عبر

لم يكن منشور رئاسة الجمهورية حول أمسية جمعت الرئيس أحمد الشرع بعدد من الشعراء والأدباء، سوى شرارة أولى لنقاش أوسع حول النشيد الوطني السوري المقبل، وحول حدود القرار الثقافي في مرحلة انتقالية لا تزال في طور التشكل السياسي والدستوري. 

 

الصورة التي انتشرت للرئيس الشرع وإلى جانبه كل من وزير الثقافة محمد الصالح، والشاعر أنس الدغيم وشقيقه حسن، والكاتب الفلسطيني جهاد الترباني، بدت في نظر كثيرين أكثر من مجرد سهرة أدبية، وقُرئت كإشارة ضمنية إلى انطلاق ترتيبات النشيد الوطني الجديد للجمهورية، مما فتح باباً واسعاً للسجال.

 

 

الاعتراضات في وسائل التواصل الاجتماعي انقسمت بين من استنكر ضيق التمثيل ووجود شقيقين في صورة ذات طابع رمزي، ومن تساءل عن مدى شرعية هذه الخطوة أصلاً. واعتبر معلقون أن تغيير النشيد الوطني يتجاوز صلاحيات السلطة الانتقالية الحالية، وأنه ليس من مهام حكومة لم تُنتخب، مشددين على أن الأناشيد الوطنية تولد في العادة من خلال مسابقات وطنية مفتوحة تعكس تنوع المجتمع وتعتمد بشكل مؤسساتي جامع، لا من خلال جلسات مغلقة أو سهرات أدبية مهما كانت نواياها.

 

لجنة صياغة نشيد

الشاعر أنس الدغيم الذي اشتهر بكتابته للثورة السورية، ويعمل كمدير مديرية في وزارة الثقافة، سارع إلى الرد وفنّد في منشور توضيحي فكرة أن تكون الصورة قد التُقطت في إطار لجنة صياغة نشيد، موضحاً أن الحديث عن النشيد جاء عرَضاً خلال لقاء سابق مع الرئيس، وأن السهرة كانت أمسية أدبية بحتة. وأكد الدغيم أن النشيد الوطني ليس مشروعاً فردياً، ولا يمكن أن يكتب بمنطق الاستئثار، بل يجب أن يكون تعبيراً عن روح كل السوريين الأحرار، مضيفاً أن شقيقه حسن لم يتدخل في أي نقاش يخص النشيد رغم خلفيته الأدبية.

 

لكن الرد لم ينهِ الجدل، بل أعاد طرح سؤال عن صياغة الهوية الرمزية لسوريا من دون العودة إلى مسار تشاركي فني واسع وواضح. 

 

 

قانونياً، يربط الفقه الدستوري عملية تغيير النشيد الوطني، كما العلم أو الشعار، إما بنص دستوري أو بإجراء قانوني صادر عن سلطة منتخبة أو مفوضة ضمن إعلان دستوري انتقالي واضح. أما من الناحية السياسية، فإن اختيار الرموز الجامعة في الدول الخارجة من نزاعات أو من أنظمة شمولية غالباً ما يتم عبر مسارات علنية، تستند إلى لجان تحكيم مستقلة ومفتوحة، وتبنى على مساهمات متنوعة من المجتمع.

وكان قرار وزارة التربية الأخير، بمنع ترداد أي نشيد أو شعار في جميع المدارس العامة والخاصة "إلى حين اعتماد النشيد الوطني للجمهورية العربية السورية"، زاد من أهمية النقاش. فبينما فُهم القرار بوصفه إجراءً مؤقتاً لضبط حيادية المدرسة في مرحلة سياسية حساسة، فإنه عملياً يترك فراغاً رمزياً لا بد من ملئه في أقرب وقت وعلى نحو شفاف تجنباً لانقسام جديد حول رمز يفترض أن يوحّد.

 

نشيد "حماة الديار"

واعتمدت سوريا منذ العام 1938، النشيد  الوطني الحالي "حماة الديار" عبر مسابقة وطنية أطلقت لاختيار رموز الدولة الجديدة، بعد نيل الاستقلال الجزئي عن فرنسا، وفاز في تلك المسابقة النص الذي كتبه الشاعر الدمشقي خليل مردم بك، ووضع ألحانه محمد فليفل، أحد الأخوين اللبنانيين فليفل، المعروفين بإسهامهم في تأسيس تقاليد النشيد المدرسي العربي. 

 

أما النشيد السابق كان "سوريا يا ذات المجد" من كلمات مختار التنير وألحان أحمد ومحمد فليفل، وظل معتمداً منذ 1919 في عهد المملكة السورية وحتى استبداله العام 1938. لاحقاً، خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر (1958–1961)، استبدل النشيد مؤقتاً بـ"والله زمان يا سلاحي" من كلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، وغناء أم كلثوم، قبل أن يعود "حماة الديار" إلى التداول الرسمي بعد الانفصال.

 

وخلال الثورة السورية، لجأت بعض الشرائح المعارضة إلى استخدام قصيدة عمر أبو ريشة "في سبيل المجد والأوطان" كنشيد بديل في الميادين والفعاليات، تعبيراً عن القطيعة الرمزية مع النظام البعثي، ليتحول النشيد الوطني إلى مرآة لتحولات السلطة والرمز، حيث ارتبط دوماً بتعاقب الأنظمة وتبدل الشرعيات، ما يجعل النقاش الحالي حول تغييره امتداداً لتاريخ طويل من التجاذب الرمزي والهوية الوطنية.

 

النشيد الألماني

ولعل الاطلاع على خبرات دول أخرى يساعد في التفكير بهدوء. ففي التجربة الألمانية مثلاً، لم يُلغ النشيد الوطني بالكامل بعد سقوط النازية وتم التعامل معه بتحفظ قانوني ورمزي.

 

النشيد المعروف بـ"Das Lied der Deutschen" الذي كتبه أوغست هاينريش هوفمان العام 1841 ولحنه جوزيف هايدن، كان يتألف من ثلاثة مقاطع. وبعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لاستخدام النازيين للمقطع الأول بشكل شعاراتي يروج لفكرة "ألمانيا فوق الجميع"، تقرر تجاهله. ومنذ العام 1952، اعتمدت جمهورية ألمانيا الاتحادية المقطع الثالث فقط كنشيد رسمي، وهو مقطع يتحدث عن "الوحدة والعدالة والحرية"، ويعبر عن قيم ديموقراطية جامعة، واتُّخذ هذا القرار بالتوافق بين الحكومة والرئاسة، ثم أقر لاحقاً بشكل دستوري بعد توحيد الألمانيتين العام 1991. 

 

ويعكس النموذج الألماني مساراً تدريجياً وواعياً في التعامل مع رمزية النشيد، إذ لم يستبدل بنشيد جديد بل جرى تنقيحه واختيار ما يتناسب مع المرحلة الجديدة من تاريخ البلاد في إطار مؤسساتي واضح ومنضبط قانونياً. أما جنوب أفريقيا فاعتمدت العام 1997 نشيداً مزدوجاً يدمج بين نشيد الحقبة السوداء "Nkosi Sikelel’ iAfrika" ونشيد البيض "Die Stem"، في صيغة تعكس المصالحة من دون إنكار الماضي.

 

بداية مسار

في سوريا يبدو أن المسار لم يبدأ بعد، ورغم أن ما نشره حساب رئاسة الجمهورية لا يتجاوز جلسة أدبية ونقاشاً أولياً، لكنه سرّع الجدل حول الشكل والمضمون، الأمر الذي يحتاج وضوحاً في توجه السلطات وخريطة طريق مؤسساتية، تبدأ بدعوة عامة إلى تقديم اقتراحات، تشرف عليها لجنة موسعة تضم أدباء وملحنين ومؤرخين من مختلف الاختصاصات، وتعرض نتائجها للنقاش العام قبل اعتمادها دستورياً، ليكون النشيد  وثيقة شعورية سياسية، تمثّل حاضر البلاد وتطلعاتها.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث