ما زالت الشرطة الفرنسية عن أربعة لصوص قاموا الأحد بسرقة حلي "لا تقدر بثمن" من متحف اللوفر في باريس.
ووقعت السرقة التي تحمل بصمة جماعات الجريمة المنظمة، في وضح النهار في أكبر متحف في العالم، والذي يستقبل سنوياُ نحو تسعة ملايين زائر، ويضم 35 ألف عمل فني على مساحة 73 ألف متر مربع. ولقيت العملية اهتماماً واسعاً عالمياً، وأثارت جدلاً سياسياً في فرنسا، وأعادت فتح النقاش حول أمن المتاحف التي تواجه "ضعفاً كبيراً"، وفق وزير الداخلية لوران نونيز. ويتابع القضية نحو 60 محققاً من فرقة مكافحة الجريمة (BRB) التابعة للشرطة القضائية في باريس، والمكتب المركزي لمكافحة الاتجار بالممتلكات الثقافية، حسبما نقلت وكالة "فرانس برس".
وتحيل السرقة إلى أسئلة حول مصير الكنوز المسروقة لأنها تختلف إلى حد ما عن كنوز تتم سرقتها من مناطق الحروب كسوريا واليمن مثلاً وتظهر في دول أجنبية. وبحسب إيرين تومبسون، الأستاذة المتخصصة في جرائم الفن، فإن الأعمال الفنية الشهيرة التي تُسرق من متاحف عالمية كبرى مثل "اللوفر" يكاد يكون من المستحيل بيعها في السوق المفتوحة. هذه القطع موثقة جيداً لدرجة أنها تصبح "خطيرة جدًا" لأي مشترٍ، حتى في السوق السوداء. وبالتالي لا يمكن بيع هذه الأعمال حتى بجزء صغير من قيمتها الحقيقية بسبب شهرتها.
من جهة أخرى، يشير المؤرخ المعروف في جرائم الفن، نواه شارني، إلى أن مثل هذه التحف المسروقة كثيراً ما تتحول إلى شكل من "العملة السرية" في عالم الجريمة، حيث يتم تداولها بشكل سري بين العصابات كضمانات للصفقات، أو تُستخدم كورقة تفاوض من أجل الحصول على أحكام مخففة عند استرجاعها لاحقاً. وتحمل هذه القطع قوة رمزية ومالية هائلة في الأوساط الإجرامية، حتى وإن لم يكن من الممكن عرضها أو بيعها علناً.
ويختلف هذا الواقع تماماً عن القطع الأثرية المنهوبة من مناطق النزاع، كالعراق وسوريا. فهذه القطع، التي غالباً ما تكون غير موثقة أو سيئة التوثيق، يكون من السهل تهريبها وبيعها. وغالباً ما تُجزأ إلى أجزاء – مثل شظايا من الفسيفساء، أو أوانٍ خزفية، أو نقود، أو تماثيل – وتُباع بشكل مجهول عبر الإنترنت، أو من خلال تجار مشبوهين، أو حتى في معارض فنية في مدن كبرى لا تطرح الكثير من الأسئلة. وعلى عكس جواهر "اللوفر" التي يمكن تعقّبها بسهولة، تختفي هذه القطع ببساطة في مجموعات خاصة من دون أن يلاحظها أحد.
وبالتالي من الممكن أن تلجأ عصابة "اللوفر" إلى تشويه القطع أو تذويب الذهب وفك الأحجار الكريمة وبيعها منفردة مثلاً، أو قد تحاول بيعها إلى جامعي التحف النادرة في السوق السوداء عبر شبكة معقدة من الوسطاء ضمن عالم الجريمة المنظمة، وغيرها من الأساليب الخطرة في وقت تقوم فيها الشرطة المحلية والدولية بتعقب تلك الأنشطة التي تبدو وكأنها آتية من صفحات كتب أغاثا كريستي.
وكانت آخر سرقة تعرض لها "اللوفر" العام 1998، لكن أشهرها كان العام 1911 عندما سرقت لوحة الموناليزا على يد موظّف إيطالي يُدعى فينتشينزو بيروجيا، الذي دخل المتحف متخفياً، وأخفى اللوحة تحت معطفه بعد انتهاء الدوام تقريباً، ثم احتفظ بها في شقته في باريس لنحو عامين قبل محاولة بيعها إلى معرض في فلورنسا.
وهذه السرقة أصبحت مثالاً كلاسيكياً على كيفية ظهور أعمال فنية مشهورة على رادار المهربين، وإلى أي مدى يكون بيعها مستحيلاً تقريباً بسبب شهرتها وتعقيدها. وفي أيار/مايو 1998، تعرض اللوفر أيضاً لسرقة لوحة بعنوان "Le chemin de Sèvres" للفنان فرانسوا كوروت، عندما أُخِذت من خلف إطارها بعد فك المسامير، ولم تسترجع حتى اليوم.
ويمكن ملاحظة لوائح طويلة لمسروقات من المتاحف بعضها مازال غامض المصير بينما عثرت الشرطة على مسروقات أخرى، أحياناً بعد فترة طويلة من الزمن، كما هو الحال العام 2012 عندما سرقت لوحتا بيكاسو وموندريان من متحف في اليونان، إلى أن عثر عليهما العام 2021، بعد سنوات من الاختفاء.
ووقعت السرقة الأخيرة في "اللوفر" بين الساعة 9,30 و9,40 صباحاً بتوقيت باريس، بواسطة شاحنة مجهزة برافعة ركنت لجهة رصيف نهر السين. وصعد اللصوص بواسطة الرافعة إلى مستوى نافذة الطابق الأول وقاموا بتحطيمها بواسطة جهاز قص محمول. ودخلوا إلى قاعة أبولون التي تضم مجوهرات التاج الفرنسي وهشموا واجهتين تحظيان بحماية عالية كانت الحلى فيهما.
وأوضحت وزارة الثقافة الفرنسية إن اللصوص سرقوا ثماني حلي "لا تقدر بثمن على الصعيد التراثي"، مشيرة الى أن قطعة تاسعة هي تاج الامبراطورة أوجيني زوجة نابوليون الثالث (الذي كان امبراطوراً بين العامين 1852 و1870) أسقطها اللصوص خلال فرارهم. وقالت المدعية العامة للجمهورية الفرنسية في باريس لور بيكو أن الرجال الأربعة كانوا "ملثمين" وفروا على درجات نارية والبحث جار عنهم. ومن بين الحلي الثماني المسروقة والعائدة كلها إلى القرن التاسع عشر، عقد من الياقوت عائد للملكة ماري-إميلي زوجة الملك لوي-فيليب الأول المؤلف من ثمانية أحجار ياقوت و631 ماسة بحسب موقع اللوفر الالكتروني.
وسرق اللصوص أيضاً عقداً من الزمرد من طقم عائد للزوجة الثالثة لنابوليون الأول، ماري لويز المؤلف من 32 حجر زمرد و1138 ماسة. أما تاج الامبراطورة أوجيني فيحمل حوالى ألفي ماسة. وقال نونيز أن عملية السرقة استمرت "سبع دقائق"، وأن منفذيها لصوص "متمرسون" ربما يكونون "أجانب" و"ربما" عرف عنهم ارتكابهم وقائع مشابهة.
وأشارت وزارة الثقافة الى أن سرعة تدخل موظفي المتحف دفعت اللصوص "الى الفرار تاركين معداتهم خلفهم". ونظراً لأنه من شبه المستحيل بيع الحلي المسروقة كما هي، رجحت المدعية العامة بيكو فرضيتين، إحداهما أن يكون اللصوص تصرفوا "لصالح جهة معينة"، أو أرادوا سرقة أحجار كريمة "للقيام بعمليات غسل الأموال".
وأعادت العملية، وهي السرقة الأولى في اللوفر منذ العام 1998، فتح النقاش في فرنسا بشأن أمن المتاحف التي أصبحت هدفاً للمجموعات الإجرامية لما تحويه من كنوز فنية، ولكونها تحظى بإجراءات حماية أقل من مؤسسات أخرى مثل المصارف.
وتعرضت متاحف فرنسية في الآونة الأخيرة لعمليات سرقة وسطو، ما يسلط الضوء على عيوب محتملة في أنظمة الحماية والمراقبة. وفي منتصف أيلول/سبتمبر، سرقت عينات من الذهب من "المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي" في باريس الذي قدر قيمتها بنحو 600 ألف يورو. وفي أيلول/سبتمبر أيضاً، تعرض متحف في ليموج بوسط فرنسا، وهو أحد المتاحف الرائدة في مجال الخزف، للسرقة، وقدرت الخسارة بنحو 6,5 ملايين يورو.
وعندما سئل وزير الداخلية عن خلل محتمل في نظام المراقبة في اللوفر، أشار إلى أن أمن المتاحف هش. وقال نونيز: "نعلم جيداً أن هناك ضعفاً كبيراً في المتاحف الفرنسية"، مذكراً بأن "خطة أمنية" أطلقتها مؤخراً وزارة الثقافة "لم تستثن" اللوفر. وتعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كانون الثاني/يناير بترميم متحف اللوفر وتوسيعه، بعدما أعربت مديرته عن قلقها إزاء تردي وضعه. وأثارت السرقة ردود فعل في فرنسا التي تواجه أزمة سياسية منذ أشهر. وأوضحت وزارة الثقافة أن أجهزة الإنذار على النافذة الخارجية لقاعة أبولون والواجهتين اللتين تحظيان بحماية عالية انطلقت بالتزامن عند وقوع العملية. وقال رئيس حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف جوردان بارديلا: "هذه إهانة لا تحتمل. إلى متى سيستمر انهيار الدولة؟" وقال زعيم مجموعة حزب الجمهوريين اليميني في الجمعية الوطنية لوران فوكييه: "فرنسا نهبت. علينا حماية أثمن ما لدينا: تاريخنا"، فيما تعهد ماكرون بأن السلطات ستعثر "على المسروقات وسيحال الفعلة على القضاء".
