"خلصت الحرب... وقفوا إطلاق النار يا جماعة" قالها أحد الصحافيين في شوارع غزة قرابة الفجر، فردّ زميله بابتسامة: "الناس مش عارفين، الناس لسة نايمة". ثُلّة من صحافيين أبطال يتجولون في شوارع لا تحمل ملامح، يبشّرون من بقيوا أحياء بخبرٍ تكرّر مؤخراً ونُقض بعد حين. كم افتقدتُ لصوت أنس الشريف وهو يخلع خوذته معلناً انتهاء الموت هناك، هل كان يعلم بأنه سيغافله ويبتلعه؟
احتفالات مستحقّة
طاقم للدفاع المدني يؤدي سجدة شكر، ابتسامات تغمر الوجوه رغم اصفرار الأسنان وبروز عظام الوجه، تكبيرات... هتافات... أصابع النصر تفقأ عين الحقيقة. هل انتصرت غزة؟ هل أدت حماس واجبها المقدّس؟ لا جواب هنا، فقط الفرحة التي غمرت الغريق بعدما أدرك أنه وصل الشاطئ ولامست قدمه الأرض، أما الأخرى المبتورة فلن يبحث عنها الآن في فغر القرش، هو فقط يريد أن يستريح ويأكل وينام! ربما ما سبق من محاكاة وتوصيف للمشهد الغزاوي هو التعريف الجديد للنصر. لا اعتراض، فلم نعد نملك رفاهيته، كل ما في الأمر أن كابوساً قد توقف، وسيبدأ آخر بلا شكّ، فهذه حال الضعيف المكلوم... إنما اليوم هو لحلوى الطحين المنخول مع التراب يكتسب طعم الملح المكثّف مع دمع الخلاص. الخلاص ممَّ؟ من الموت؟ من القهر؟ من الجوع؟ لا خلاص كاملاً في غزة، هو أيضاً سوريالي كما نصرها وفرحها. كتب الكاتب الفلسطيني محمود جودة يصف الاتفاق بـ"الفرح الحزين". هي الأضداد في غزة مجتمعة ومذهولة.
مؤكّد سيختلف الأضداد والمحللون: نصر مقاوم؟ أم هزيمة غير مدروسة؟ أم كارثة إنسانية؟ سينسبون العلل للمسؤولين، ويشرّحون الأخطاء... كم يشبه هذا اليوم ذاك الذي تلى حرب تموز 2006 حينما انقسمت الأطراف اللبنانية بين محتفل ومنكّس للعلم.
لم أتمالك نفسي فذرفت دمعاً سخياً لم أجد له تصنيفاً أيضاً: هل هي غبطة بوقف إطلاق النار؟ أم كمد على كل ما مرّ خلال عامي الحرب المسعورة؟ حتى أنها ليست بحرب! الحرب تطلق على طرفي نزاع يمكن أن يكونا متكافئين. هي مذبحة، مهلكة، إبادة وتطهير... لكنها ليست بحرب.
سامحونا
أول كلمة خطرت لي هي المسامحة، طلبتها ضمنياً من أهالي القطاع. هل أنا مذنبة؟ نعم كما كلنا، كما هذا العالم النذل الذي أدار ظهره ولم يبالِ بوصمة العار. منظمات حقوقية، اتفاقيات وبروتوكولات، مجتمع مدني، نشطاء، حملات إغاثة... كل هذا وكثير من العناوين الطنّانة يحلو لي أن أصفها كما كان يفعل جدي: "كل هذا حقه فرنك مصدّي"، وعجز هذا الفرنك أن يبتاع عهداً صادقاً من فوهة البندقية.
القوة في هذا العالم الذي يزداد تحضراً هي للسلاح. قل لي ماذا في ترسانتك، أقل لك من أنت. يزداد العنف فتتقلص المعاني حتى تذوب كلماتها ضمن ثوب فضفاض. وحده الخذلان يبرز بكل مرارته، كامل المعنى، مكتنزاً بالأسف. هل هي أنظمة الحكم الفاسدة؟ أم أنها الشمولية القاسية؟ من أوصلنا إلى هنا؟ عامان امتلأت بهما حناجر العالم بعبارة "أنقذوا غزة" ولم يترك الضمير الإنساني حجة تقف في وجهه. عبوات بلاستيكية تحوي حفنات من أرز وعدس أُلقيت في البحر... صور لأطفال افترشوا الأرصفة... كوفية فلسطين في كل محفل تخز الذاكرة الشبعة لتخبرها بأن عظاماً ذاب اللحم فوقها جوعاً. لم تنتخب الشعوب إذاً ممثليها في السلطات؟!
تلملم غزة جراحها استعداداً لتستحيل خيمة عزاء جماعية، يتكئ الناجون على أكتاف بعضهم البعض ويبكون بصوتٍ مسموع، دون أن يشوّش عليه صوت الطيران هذه المرة. قهوة مرّة كالعلقم، ساخنة كالجمر، ستُسكب في فناجين صغيرة وتُشرب بصمت. ليس لهم إلا الله وما يعتقدون... هي مأساة كُتبت عليهم وحدهم وهم على يقين بأن أحداً لن يتقاسمها معهم. الخذلان يصيبنا وحدنا، ولم يعد ساري المفعول هناك. يفتّت عجزنا حين صنعنا هذا العالم المتحضر كله وهدمنا الإرادة.
نُبروظ العجز بركام غزة، ونضع شاهدة على نشوة باغتتنا منذ عامين وضلّت طريقها، إذ ظننّا بأن العين قاومت مخرزها، وأن أصحاب الأرض يرقصون لإنجازٍ نبت من العدم. رأينا معهم أهوال القيامة، نعزّي أنفسنا كمن وجد نصراً في كومة قشّ، ونقول: "ربما أصبحت غزة الصغيرة قضية العالم من اليوم فصاعداً".
(*) كُتب هذا النص لحظة انتشار فيديو يظهر فيه الصحافي صالح الجعفراوي فرحاً يبشّر بانتهاء الحرب. صالح استُشهد بعد الفيديو بيوم، فكان مصيره كرفيقه أنس الشريف. مؤسف أن تبدأ السطور بفرحة صالح، وتنتهي به خبراً يؤكّد النص. فرحة قاتلة.
سوريالية المعاني لا تكون إلا بغزّة. نجا شقيقه المعتقل ناجي، في صفقة تبادل بين قوات الكيان وحماس، وفي اليوم ذاته ودّعت غزة صالح مثواه الأخير الذي حمل الرقم الصعب، الرقم الختامي للصحافيين والصحافيات ضحايا تلك الحرب، والأرجح انه لن يُختتم أبداً: 254 صحافياً وصحافية خلال عامين.
