"تنورين": من تلوّث المياه إلى تلوّث الخطاب

راغب مليالثلاثاء 2025/10/14
تنورين
حجم الخط
مشاركة عبر

في بلدٍ يتقاطع فيه السياسي بالطائفي، ويتحوّل فيه القرار الإداري إلى مادة للتجاذب والانقسام، شكّلت قضية "مياه تنورين" نموذجاً جديداً لكيفية انزلاق ملف صحي وتقني إلى ساحة سجال سياسي وطائفي، عكست هشاشة الثقة بين اللبنانيين ومؤسساتهم الرسمية، إذ تحوّل النقاش بسرعة من مضمون المسألة إلى هوية أطرافها، في مشهدٍ يكشف إلى أيّ حدّ باتت قرارات المؤسسات الرسمية خاضعة لمنطق التسييس والمصالح، حتى حين تتصل بصحة المواطن وحقّه في سلامة موردٍ أساسي كالمياه.

 

 

جدلٌ طائفي وسياسي

ما إن أعلنت وزارة الصحة اللبنانية قرارها بتوقيف شركة "تنورين" مؤقتاً عن تعبئة المياه بعد اكتشاف عينات ملوثة ببكتيريا الزنجارية الزائفة (Pseudomonas aeruginosa)، حتى انفجرت موجة واسعة من التفاعلات الرقمية التي تجاوزت الجانب الصحي، وذهبت نحو تأويل سياسي وطائفي حادّ اتخذ طابع الخصومة الداخلية بين القوى اللبنانية.

 

 

فقد رأى جزء من المستخدمين أن القرار الوزاري يشكّل استهدافاً مباشراً لفريقٍ سياسي مسيحي، معتبرين أن المسألة لم تكن صحيّة بحتة بل جزءاً من صراعٍ سياسي. وفي هذا السياق، عبّر هؤلاء عن قناعة بأن ما جرى هو "هجوم على منطقة سياسية محددة"، وليس على شركة مياه فقط، مما أدخل القضية في منطق الدفاع عن الذات الطائفية بدل مناقشة جوهرها الصحي.

 

 

في المقابل، جاء ردّ الفريق الآخر بخطاب مضاد، إذ رأى أن الاتهامات الموجهة للوزارة محاولة لتسييس العمل الإداري وتشويه دور الدولة. هذا الفريق قارب الموضوع من زاوية مختلفة تماماً، إذ استحضر في خطابه مفردات السلاح والسيادة والمقاومة ليقول إن بعض الأطراف "تشكّك بالدولة عندما تطال مصالحها فقط"، في إشارة إلى ازدواجية المعايير.

 

وبذلك، لم يقتصر الجدل على التباين السياسي، بل انحدر إلى مستوىٍ من الخطاب الطائفي المشحون الذي أعاد إنتاج الانقسامات القديمة الجديدة بين المكوّنات اللبنانية. وهكذا تحوّل النقاش حول المياه إلى ساحةٍ إضافية من ساحات الصراع السياسي والطائفي، تُتبادل فيها الاتهامات ويُوظّف كلّ طرفٍ القضية لترسيخ روايته عن "الآخر". 

 

 

إلى جانب هذين الاتجاهين المتقابلين، برز فريق ثالث حاول مقاربة الموضوع بعقلانية، معتبراً أن ما يجري هو خروج كامل عن سياق النقاش الطبيعي. هذا الفريق شدّد على أنّ القضية صحية وتقنية بحتة، وأن من المعيب أن تتحوّل إلى منبر طائفي. في رأي هؤلاء، المياه ليست مساحة لتصفية الحسابات السياسية، بل ملف يتعلق بصحة الناس، وكان يفترض أن يوحّد اللبنانيين لا أن يقسّمهم.

 

 

بُعد تجاري

وفي موازاة الانقسام السياسي، ظهرت أيضاً قراءات مختلفة ربطت القضية ببعد تجاري، معتبرة أن ما حصل قد يكون نتيجة تنافس بين الشركات المنتجة للمياه المعبأة، وأن التلويح بالتلوث ربما استُخدم كوسيلة لتشويه السمعة خدمةً لمصالح اقتصادية.

هكذا، تداخلت القراءات الطائفية والسياسية والتجارية في مشهد واحد، فبدت الأزمة مثالاً عن كيف تُستغل القضايا العامة لتصفية الحسابات الداخلية في بلدٍ تتنازع فيه الانتماءات على كل تفصيل.

 

 

المرض في الخطاب لا في العينات

تبدو "مياه تنورين" أكثر من قضية صحية أو إدارية؛ إنّها مرآة مكبّرة لبلدٍ ينجح في تسييس كلّ شيء، من أبسط الخدمات إلى أعقدها. فحين يُختزل تلوّث المياه في هوية الوزير أو انتماء الشركة، تُصبح الحقيقة ضحية جديدة في مشهدٍ لبناني مأزوم، يُدار فيه النقاش العام بمنطق الانفعال لا بمنطق المسؤولية.

 

السجالات التي أثارتها هذه القضية، تؤكّد أن المعركة بين اللبنانيين لم تعد حول جودة المياه أو معايير السلامة، بل حول روايتهم لبعضهم البعض، وحول من يملك "الحقيقة" ومن يملك "الهوية". في بلدٍ كهذا، تتلوّث النقاشات قبل الموارد، ويُصاب الخطاب العام بما هو أخطر من أي بكتيريا: انهيار الحدّ الفاصل بين الحقيقة والولاء، وبين المصلحة العامة والانتماء الضيّق.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث