الشرع يخاطب أميركا: الدولة الممكنة...لا المثالية

مصطفى الدباسالثلاثاء 2025/10/14
أحمد الشرع خلال اطلالته في برنامج "60 دقيقة"
الشرع خلال اطلالته في برنامج "60 دقيقة" (تلفزيون)
حجم الخط
مشاركة عبر

منذ لحظة دخوله مع المراسلة مارغريت برينان إلى حي جوبر المدمر، بدا أن الرئيس السوري أحمد الشرع يريد افتتاح المقابلة بصورةٍ مرئية واضحة، من ركام مدينة على أطراف دمشق ما زالت ذاكرة قصفها حاضرة أمام  السوريين والعالم كله. 

سار الشرع وسط الدمار وتحدث عن إعادة الإعمار كحق نفسي وسياسي لسكان عاشوا التهجير، وربط ذلك بفكرة العودة ثم بالملف الاقتصادي، حيث قدرت كلفة إعادة الإعمار كما قال بين 600 و900 مليار دولار.

 

 

بهذه المشهدية، أرسل الشرع رسالة واضحة الى الغرب، في واحدة من أشهر لقاءاته التلفزيونية وإطلالاته الاعلامية في المشهد الدولي. بثبات نبرة محسوبة وهدوء رجلٍ يدرك أنه أمام جمهور جديد، جلس الشرع مخاطباً العالم عبر برنامج "60 دقيقة"، وهي الإطلالة الأوسع انتشاراً له عبر شاشة أميركية منذ سقوط نظام الأسد، مقدماً نفسه كرئيس وصاحب سردية سياسية تسعى لإعادة تعريف سوريا ما بعد الحرب أمام جمهورٍ دولي يزن كل عبارة ويقارنها بما كان وبما قد يكون.

 

من فصيل إلى مؤسسة

بدت المقابلة، مقارنة بإطلالات الشرع السابقة حين كان قائداً عسكرياً، نقطة تحول أساسية في الشكل والغاية، فلم يكن تعريفه لنفسه هذه المرة قائماً على سردية "العدو المشترك" أو "الانشقاق عن القاعدة" فحسب، بل على سردية رجل الدولة الذي يتحدث بلغة المياه والكهرباء والوثائق الرسمية والانتخابات المؤجلة، متقاطعاً مع ما وصفه أكثر من مرة بـ"نضج الوعي السياسي"، حيث استخدم عبارة واضحة رداً على أسئلة عن ماضيه: "هذا كان قبل 25 سنة، عندما كنت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري".

 

 

ووضعت المقابلة الشرع بشكل عام في موقع من يريد ضبط الإيقاع، إذ أدار الأسئلة الصعبة بثلاث أدوات متكررة من تأطير زمني لكل ما يخص الماضي بأنه فصل أُسدل الستار عليه، وتعميم قانوني لأي انتهاك على أنه انتهاك "من أي طرف"، والبدء بالتحدث بلغة المؤسسة التي تبنى على قاعدة الإدارة من دون اللجوء إلى خطابات الاستقطاب.

وحملت إجابات الشرع تطميناً داخلياً للسوريين حول الخدمات والبنية الإدارية اللازمة لأي عملية انتخابية مقبلة. ومن جهة أخرى، بدت كعرض دقيق للمجتمع الدولي حول شروط الاستثمار والتعامل مع سوريا الجديدة، بعبارات مثل "لا نريد الحروب"، و"خفض التوتر على الحدود"، و"كل اتفاق أمني يجب أن يحترم سيادتنا".

 

مخاطبة صنّاع القرار

ويعتبر برنامج "60 دقيقة"، الذي استضاف الشرع، أحد أكثر البرامج تأثيراً في الولايات المتحدة، بمتوسط مشاهدات يقارب 7 ملايين أسبوعياً، ويصل أحياناً إلى 10 ملايين، وبالتالي فإن الظهور فيه يعني مخاطبة الرأي العام الأميركي، وصنّاع القرار وجمهور الميديا والمال والحقوق دفعة واحدة.

وهذا ما يفسر لغة الخطاب الهادئة والمحسوبة والعبارات الموجهة إلى الفاعلين، إذ حاول الشرع أن يظهر كمسؤول يبحث عن طريق للنهوض ببلد مدمر ويتحدّث بلغة "الدولة الممكنة" بدلاً من "الدولة المثالية".

 

 

وفي الحديث عن إسرائيل، كانت العبارة المفتاحية واضحة: "لا نريد الحرب"، وتكرّرت مرتين، وأضيفت إليها عبارةٌ صريحة بأن سوريا لم تستفز إسرائيل منذ دخول الشرع إلى دمشق. لكن في المقابل، كانت هناك خطوط حمر وضعت بصيغة تفاوضية، تمثلت في الانسحاب من كل النقاط التي احتلت بعد 8 كانون الأول/ديسمبر، وحلّ الخلافات ضمن إطار سيادي، وهو ما تكرر في خطابات سابقة له ولوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني.

وفي العلاقة مع روسيا، بدا الخطاب موزوناً بعناية إذ تحدث الشرع عن ضرورة محاسبة الأسد لكنه أقر بأن الدخول في صراع مباشر مع موسكو ليس من مصلحة سوريا حالياً، وهي صيغة واقعية لا تلغي المطالب، لكنها تعترف بترتيب الأولويات الوطنية.

 

الانتخابات والإصلاح الإداري

ربما كانت من أهم الجمل السياسية في المقابلة، تلك المتعلقة بالانتخابات، حين قال إن التصويت العام سيتاح "بعد استكمال البنية التحتية والوثائق والهويات المدنية"، وهنا يعاد ترتيب السردية بأن الانتخابات الديموقراطية ستكون  نتيجة إصلاح إداري متكامل، بما يعكس فهماً بأن الانتخابات يجب أن تكون قائمة على مناخ إداري وقانوني آمن.

في الخلاصة، قدمت هذه المقابلة صورةً متماسكة لرئيس يحسن استخدام اللحظة ويدير تاريخه من دون الانفعال، ويقدم حاضره بلغة قابلة للفهم على الصعيد الداخلي وفي عواصم القرار، وكانت الرسائل  التي قدمها عرضاً سياسياً متماسكاً لخطة انتقالية عمادها الخدمات والهوية والهدوء على الحدود.

وربما  سيخرج الجمهور الأميركي بعد المقابلة بصورة أكثر تركيباً للمشهد السوري، فلم يعد هناك ديكتاتور واحد ونظام مغلق، بل مسار سياسي جديد قائم على الاختبار.

وإذا كان الركام الذي بدأ به اللقاء استعارةً للحرب، فإن المقابلة بكاملها كانت محاولة واضحة لتحويل تلك الصورة إلى عقد اجتماعي جديد قائم على التدرّج والتهدئة والسياسة الممكنة، وإذا كتب لهذا العقد أن ينفذ، سيكون هذا اللقاء أول صفحة في السردية الدولية لسوريا ما بعد الأسد.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث