أمسكتُ بكيس القمامة متجهةً إلى الحاوية، لكنني توقفتُ عند منتصف السلم أتحسس طريقي بحذر على الدرجات المتآكلة، في ظلمةٍ تكاد تسلب النور من العيون بعدما سرق الزمنُ كل لمبةٍ من لمبات بيت الدرج؛. تحت قدميّ بقعٌ من طين كانت عالقة بنعل جارنا الذي يعود من عمله متأخراً، وبقايا أكياس شيبس ألقاها أولاد الجيران، ورائحة "بلوعة" متعفنة تزكم الأنف.
هنا على هذه البقعة من "بيت الدرج" أدركتُ أنني أقف على عتبة اللاانتماء. ندفع نحن السوريين ثمن هذه المساحة كما ندفع ضريبةً على وجودنا، ثم نهملها كما لو أننا نرفض أن نعترف بأننا نشترك في شيء. بيت الدرج هو "الفضاء الثالث" كما يسميه إدوارد سوجا: ليس خاصاً تماماً ولا عاماً تماماً، إنه الابن غير الشرعي للعقار السوري؛ ابنٌ مُهمَل يتلقفه الجميع، يدوسونه ويدنسونه من دون أي إدراك إنه من لحم أكتافهم.
اهتمامي بمراقبة سلوك الناس في الفضاء العام بدأ منذ الصغر، ربما بدافع الفضول البريء أولاً، ثم تحوّل مع الوقت إلى هوسٍ تحليليّ يحاول تفكيك شيفرات العلاقات الإنسانية الخفية في الشارع والجامعة والمكتب والفرن، كلها فضاءات جديرة بالقراءة وتحليل السلوكيات. لكن، لم يكن هناك مكان يختزل هذه العلاقات أكثر من بيت الدرج في البنايات السورية — ذلك العالم السريّ الموازي الذي نَعبُره كل يوم دون أن نكترث لأسراره.
هذا العبور اليومي لم يكن يومًا محايدًا بالنسبة إلي، فبيت الدرج لا يمرّ بي مروراً عابراً بل يستفزني ويوقظ فيّ غضباً دفيناً ويستدرجني إلى فعلٍ بسيط لكنه مشحون بالمعنى: "نحت الدرج". وبذلك كلما هممتُ بشطف الدرج، يتصاعد في داخلي غضبٌ لا يشبه أي غضبٍ آخر. فأبدأ نحت" الدرجات" كما تسميه أمي، تنظيفٌ عميقٌ، كأنني أنتقم من الحجر لما سببه البشر. أغضب وأنحت كلما توافرت شروط المقاومة: ماءٌ، كهرباءٌ، وهمةٌ تكفي لتحمّل نظرات التنمّر والاشمئزاز.
غضبي ليس من الأوساخ، بل من عجزنا عن الاتفاق على شطف الدرج. وأنا، قلما أكون متيقنة، لكني متيقنة من أن اتفاقنا على شطفه قد يكون بوابةً للاتفاق على كل شيء لاحق. كل القضايا الكبرى تبدأ من عتبات السوريين. ربما هذا سبب اهتمامي بتلك المساحة اليتيمة المشتركة وتأملي العميق لما يحدث فيها وكيف يتعامل الناس معها. أعتقد أنني في الصميم أبحث عن منطقة واحدة مشتركة حقيقية بين السوريين في الفضاء العام، فلا أجد سواها، وكونهم دفعوا سلفاً ثمناً باهظاً لتلك المساحة الضيقة المهملة، فإنه من المفترض أنها تهم الجميع كما تهمني… لكني أدركت مبكراً أن الحقيقة غير ذلك.
بحكم هذا الهوس، لم أستطع تجاهل ذلك التناقض الصارخ: كيف لمساحةٍ ندفع ثمنها ونعبرها كل يوم أن تصير أكثر الأماكن إهمالاً واستفزازاً؟ لم تكن الإجابة في علم العمارة أو الهندسة، بل في نظريةٍ ثوريةٍ طرحها الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر Henri Lefebvre تقول: "الفضاء ليس حيادياً... إنه منتج اجتماعي نصنعه نحن بقدر ما يصنعنا". لم يتحدث لوفيفر عن السلالم تحديداً، لكنه قدّم لنا في كتابه "إنتاج الفضاء" (1974)، ثالوثه الفضائي الشهير spatial triad كعدسة مكبرة يمكن من خلالها قراءة واقع بيت الدرج السوري بكل تناقضاته:
يعد الجانب المادي الملموس لبيت الدرج الذي يصافح حواسنا كل يوم بلا مواربة، هو الفضاء المُدرَك Perceived Space أي كما نراه ونستخدمه يومياً. إنه عالم الدرجات المتآكلة والجدران المشوّهة بالكتابات العشوائية والإضاءة الخافتة التي تروي حكايات انقطاع كهربائي متكرر ورائحة أكياس القمامة تعلن عن نفسها قبل أن تصل إليها. في هذا الفضاء المدرك تُمارس أبسط الطقوس اليومية: صعودٌ يتثاقل مع كل طابق ونزولٌ متعجل، حمْل الأغراض بين الطوابق، وتحيات عابرة تذروها الريح. هذا هو الوجه الخام لبيت الدرج — الواقع الذي لا يُزيَّف والذي يروي قصة الإهمال المتواصل والاستخدام اليومي الذي ينحت بمظاهر الحياة على جسد الإسمنت.
أما الفضاء كما خطط له المهندسون وصممه المتعهدون العقاريون، فهو الفضاء المتصوَّر Conceived Space هذا البعد، يحوّل بيت الدرج من كائن حي إلى مجرد حسابات إنشائية وظيفية ومساحة أربعة أمتار مضافة إلى فاتورة كل شقة وتُقدّر بنسبة 7% من قيمتها. تصميمه الضيق والمهمل يحوله إلى مجرد "ممر وظيفي" يساهم في عزل السكان عن بعضهم البعض ليسهل على السلطة السيطرة على الفضاءات المشتركة كما تتصورها فتحيّد أي إمكانية لتحولها إلى ساحة للحوار أو التنظيم المجتمعي.
بيت الدرج في سوريا هو أكثر من مجرد ممر — إنه ساحة صراع بين من يريد تحويله إلى مجرد رقمٍ في حساب، وبين من يحاول أن يحوله إلى جزء من ذاكرته وهوّيته. وهو أيضاً مرآة تعكس علاقتنا المعقدة مع كل ما هو "مشترك" في بلدنا. في ظل هذا الفضاء الضيق كما تفرضه السلطة والهيمنة يظهر"الوصي على الدرج": ذلك الذي يعتقد أن أمتاره الأربعة تخوّله أن يكون حاكماً مطلقاً ومسؤولاً عن بيت الدرج فيحاول التحكم في السكان وفرض قوانينه.
أما الفضاء كما نعيشه ونختبره يومياً بمشاعرنا وعلاقاتنا وذكرياتنا فهو الفضاء المعاش Lived Space. إنه فضاء المقاومة الخفية حيث يعيد الناس إنتاج المساحة وفق حاجاتهم ورغباتهم، بعيداً من التصميم الرسمي المَفروض من السلطة. هنا يتحول الفضاء من كيان مادي مجرد إلى نسيج من المعاني والرموز والقصص الإنسانية.
هذا المفهوم يجد تجلّيه الأوضح في بيت الدرج السوري حيث تتحول هذه المساحة الوظيفية إلى مسرح للحياة اليومية بكل تعقيداتها. على هذه الدرجات تُخاض معارك صغيرة وكبيرة: همسات الجارات الخاطفة وثرثرتهن عن سكان البناء، وغضب "الشطاف" وهو ينظف بنفور، وعبث الأطفال على السلالم وأكياس الشيبس المبعثرة ونظرات المراقبة من خلف الأبواب، تتخللها لحظات تضامن عابرة مثل أن يساعد أحدهم بحمل أكياس البقالة الثقيلة أو أن يشارك إنارة الدرج بضوء الموبايل في أثناء الصعود.
هنا يعشعش في كل زاوية "الساكن الصامت"، الذي أتقن فن "النطوَطَة" على الدرج المكسور، والمرور ببرودة أمام "البلوعة" الفائرة؛ هو يعيش الممارسة المكانية بمعناها السلبي، مستخدماً الفضاء للعبور فقط. لكن ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن إهمال السوريين لبيت الدرج ليس نابعاً من طبيعة "شريرة" لديهم، بل هو رد فعل مقاوم على شعور عميق باليأس والقهر والعجز. عندما يُحرم الناس من الحق في المشاركة في تشكيل الفضاء العام الكبير، وعندما يشعرون أن أصواتهم لا قيمة لها في القرارات الكبرى، فإنهم يوجهون غضبهم وإحباطهم نحو المساحات المشتركة الصغيرة المتاحة لهم - مثل بيت الدرج - كنوع من المقاومة السلبية.
فالإهمال الظاهري لبيت الدرج هو في الحقيقة صرخة صامتة ضد هيمنة السلطة على الفضاء العام، حيث يصبح إهمال المساحة المشتركة لغة وحيدة للتعبير عن الرفض عندما تُسلب كل لغات التعبير الأخرى. هكذا يصبح بيت الدرج مرآة لا تعكس فقط إشكالات المجتمع السوري العميقة في بناء الثقة والتضامن بين بعضهم البعض، بل تجسد أيضاً آليات المقاومة اليومية التي يطورها الناس للتعامل مع شعورهم بالعجز والاستبعاد من الفضاء العام الأوسع.
من هذا الفضاء المعاش يُنتج السكان علاقاتهم وصراعاتهم وتحالفاتهم اليومية محاولين استعادة المساحة من براثن التجريد والهيمنة، فيُخلق فضاء إضافي من تفاعل الفضاءات الثلاثة هو الفضاء المجرد Abstract Space ولا يعتبر عند لوفيفر مجرد مفهوم تجريدي، بل هو آلة سياسية تعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والفضاء. يصبح بيت الدرج النموذج المصغّر لهذه الآلة حيث لا يقتصر التجريد على تحويل المساحة إلى أمتار مُضَافة فحسب، بل يتعداه إلى تجريد الإنسان نفسه من قدرته على التعبير والتأثير في الفضاء العام الأوسع.
فعندما تُصادر السلطة حق الناس في تشكيل فضاءاتهم العامة الكبرى - من ساحات التعبير إلى أماكن التجمع - تتحول المساحات المشتركة الصغيرة مثل بيت الدرج إلى ساحة بديلة للصراع. هنا يصبح الإهمال والتخريب لغة احتجاج غير واعية حيث هو الفضاء الوحيد المتاح لمجتمع حُرِم من أدوات التعبير المشروعة.
وهكذا يتحول بيت الدرج إلى مرآة تعكس الآلية الدائرية للقهر: كلما زادت هيمنة السلطة على الفضاء العام، زاد انكفاء الناس إلى مساحاتهم الضيقة، وكلما أهملوا هذه المساحات، عززوا - من دون وعي - منطق التجريد الذي تفرضه السلطة، فتتحول إلى حلقة مفرغة حيث يصبح إهمال الفضاء المشترك تعبيراً مأسوياً عن الحرمان من الحق في تشكيل الفضاء العام.
ليس بيت الدرج فقط من يشهد عمليات سلوكية معقدة، بل أيضاً العتبة. تعد عتبة المنزل حيزاً شديد الأهمية في الثقافة السورية، إنها ليست مجرد حدود فيزيائية بل هي "فضاء بيني/عتبي" حيث يتحول الإنسان إلى حالة من "اللا-هوية" المؤقتة أو حالة الـ"ما بينية" - حيث لا ينتمي إلى عالم الخاص ولا إلى عالم العام. في كل عبور لعتبة البيت، يخوض الإنسان طقساً وجودياً يستحضر نظرية طقوس العبور التي صاغها الأنثروبولوجي الفرنسي آرنولد فان جينيب، التي ترى أن أي انتقال وجودي أو اجتماعي يمر بثلاث مراحل أساسية: الانفصال، والمرحلة الليمينالية (البينية)، والاندماج.
عتبة البيت في السياق السوري تمثل المرحلة الليمينالية بإمتياز التي يعيش فيها الإنسان في حالة الـ"بين-بين"، حيث تتعطل التراتبيات المعتادة وتذوب الهويات الثابتة. هنا على هذه البقعة الأسمنتية الضيقة، يُظهر بعض الناس مهارة بهلوانية وتلقائية قل نظيرها في التبديل بين هويتين: هوية "المواطن المنضبط" داخل بيته، وهوية "اللامبالي" خارجه. هذه الازدواجية ليست عيباً أخلاقياً، بل هي استراتيجية بقاء في مجتمع يرفض المناطق الرمادية، ويجد صعوبة بالاعتراف بوجود مساحات بينية يمكن أن تجمعنا. تصبح العتبة هنا مرآة تعكس إشكالية أعمق: عجزنا عن ممارسة السياسة كفن لإدارة الاختلاف في المساحات المشتركة؛ السياسة كما نعلم تُصنع في المناطق الرمادية.
أما المرحلة الثالثة من طقوس العبور، وتُسمّى الاندماج، فهي معلقة وغير مكتملة في السياق السوري. فالمجتمع العام الذي من المفترض أن يندمج فيه الجميع مُختلّ هو الآخر، وبالتالي تتحول الليمينالية إلى حالة دائمة من اللا-استقرار. لكن في قلب هذه المأساة، ستبقى العتبة تحمل بذرة التغيير. فإذا تعلمنا عبورها معاً لا كبهلوانين على حبل مشدود، بل كبناة لجسور من الثقة، فقد نتمكن من تحويلها من فضاء للانفصام إلى جسر للجماعية المنشودة.
لذلك وجِدتْ فئة من السكان تسمى"شطاف الدرج الغاضب" تحاول العبور من المرحلة الليمينالية نحو الاندماج وهم ليسوا فئة منفصلة وضالة كما يصورها الكثيرين، بل هم كل من يشعر بالمسؤولية تجاه هذا الفضاء المشترك. أنا منهم، وأنت قد تكون منهم. نحن من نحاول يائسين "خلق رأس مال اجتماعي من بين الأنقاض" كما يقول بيير بورديو. نحن من نؤمن أن هذه المساحة المشتركة يمكن أن تكون نواة لمجتمع أفضل.
غضبي وأنا "أنحت" الدرج ليس غضباً عادياً. إنه غضبٌ من إهدار القيمة الاستعمالية للفضاء لصالح قيمته التبادلية فقط. إنه غضب من انهيار العقد الاجتماعي الضمني الذي يجب أن يربط بيننا. هذا الغضب هو أيضاً تعبير عن إدراكٍ عميق أن اتفاقنا على شطف الدرج قد يكون بوابة للاتفاق على قضايا أكبر. في كل مرة أنحت فيها الدرج، كأنني أمارس "الحق في المدينة" الذي تحدث عنه لوفيفر - الحق في المشاركة في إنتاج الفضاء، وليس استهلاكه فقط. هذه الممارسة اليومية البسيطة تصبح شكلاً من أشكال المقاومة ضد ثقافة اللامبالاة والتهميش.
