فَوز عمر ياغي بـ"نوبل" للكيمياء..هل يحقّ لنا أن نفتخر؟

وليد بركسيةالخميس 2025/10/09
عمر ياغي (Getty)
في سن الخامسة عشرة، غادر المنطقة الغارقة في الصراعات والبؤس ليبدأ رحلته العلمية في الولايات المتحدة (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

عندما أعلن عن فوز العالم الأميركي عمر ياغي بجائزة "نوبل" في الكيمياء هذا العام، لم يمر وقت طويل حتى امتلأت منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العربية بالشعارات: "فخر الأردن!"، "فخر فلسطين!"، "فخر السعودية!"، "فخر العالم العربي!"، بسبب أصوله العربية، وبدأ السباق الفجائي: "من سيُنسب إليه الإنجاز؟ وأي علم سيرفرف على صورته؟"، في وقت يتضخم فيه الشعور القومي التبسيطي، في العالم العربي، كما في في أوروبا والولايات المتحدة التي يزداد فيها الخطاب الشعبوي في السياسة والإعلام.

 

 

لكن ياغي ليس أردنياً فقط، ولا فلسطينياً فقط؛ بل هو عالم أميركي من أصول عربية. نجح ليس بفضل العالم العربي، بل رغماً عنه، في حين جرى التركيز على أصوله العربية في الإعلام ومواقع التواصل، مع مشاجرات إلكترونية تحتفي بإنجازه بوصفه حاملاً للجنسية الأردنية أو من والدَين فلسطينيَين أو حاملاً للجنسية السعودية، وكلها جنسيات اختلفت في تحديدها بدقة حتى وكالتا "رويترز" و"فرانس برس".

 

والفخر من هذا النوع هو مشكلة في الواقع، لأنه يستولي على إنجازات أفراد نجحوا بسبب مغادرتهم للدول التي تريد بناء قصة نجاح وطنية على أكتافهم، وربما لم تكن تبالي بهم طوال فترة كفاحهم وعملهم الجاد، قبل تحقيق النجاحات الباهرة. وبالتالي فإن قصة ياغي اليوم، ليست قصة فخر وطني؛ بقدر ما هي قصة تدور حول ما لم تبنِه الدول العربية: المختبرات، البحث العلمي، الحرية الأكاديمية، والبيئات التي تحتضن الإبداع، بدلاً من خنقه. وبالتالي فإن القصة ليست إلا مرآة للفشل الوطني في معظم الدول التي يتشاجر مواطنوها في مواقع التواصل على الفخر بالإنجاز العلمي رفيع المستوى. 

 

 

ولد ياغي في العاصمة الأردنية عمّان في العام 1965 لعائلة فلسطينية. عاش طفولة صعبة في غرفة واحدة مشتركة، من دون ماء أو كهرباء، في بيئة لم تعرف البحث العلمي ولا الفرص الأكاديمية، وفق تقارير إعلامية ذات صلة. وفي سن الخامسة عشرة، غادر المنطقة الغارقة في الصراعات والبؤس، ليبدأ رحلته العلمية في الولايات المتحدة حيث حصل على فرصة التعلم والبحث والحرية الفكرية. 

 

وهناك، في أميركا التي تعاديها مجتمعات عربية كثيرة بوصفها "إمبريالية"، نال ياغي درجة الماجستير في جامعة إيلينوي، ثم شهادة الدكتوراه في العام 1990، والتحق بجامعة "هارفرد" بين العامين 1990 و1992 لمتابعة دراسته، وانضم إلى هيئة التدريس في جامعة ولاية أريزونا بين العامين 1992 و1998. ثم انتقل إلى جامعة ميتشيغان بين العامين 1999 و2006، ثم إلى جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس بين العامين 2007 و2012، وأخيراً إلى جامعة كاليفورنيا بيركلي.

 

 

في تلك البيئة التي تشجع العلماء، أصبح ياغي عالماً مرموقاً، وأحد أبرز الأسماء في مجال الأطر المعدنية العضوية (MOFs)، وهو مجال أحدث ثورة في علوم الكيمياء والطاقة النظيفة. واليوم، نال أرفع تكريم علمي في العالم. ولا شيء من هذا تحقق بفضل الدول التي ترفع صوره الآن دلالةً على فخرها الوطني.

 

والحال أن هذا الاستعراض ليس جديداً؛ ففي كل مرة يحقق شخص من أصول عربية إنجازاً عالمياً، تنفجر وسائل الإعلام بالشعارات التي تردد "إنه واحد منا"، لكنهم لا يقولون أبداً: "نحن من وفر له البيئة لينجح". وياغي الذي نجح في الولايات المتحدة، لم ينل يوماً تمويلاً ولا تدريباً ولا احتضاناً في مختبر عربي. الحقيقة عكس ذلك. هذه الدول لم تمنحه شيئاً؛ بل منحته أسباباً للرحيل.

 

ولو بقي ياغي في دول المنطقة، لكان محاصراً ضمن نظام بيروقراطي، وتمويل محدود، وبنية تحتية مهترئة، وثقافة سياسية تمجد الولاء أكثر من البحث العلمي. ولربما انتهى به الأمر أستاذاً في مدرسة ثانوية من دون أن يسمع العالم باسمه أبداً. وفوزه اليوم بأكبر جائزة علمية على مستوى العالم، يطرح سؤالاً: كم مِن عمر ياغي في بلادنا لم تفتح له نوافذ العلم ولا أبواب الجامعات؟

 

لا خلاف على أن العالم العربي مليء بالمواهب، لأن الموهبة والطموح من الصفات الشخصية التي لا علاقة لها بالجنسية والعرق والميول الجنسية والجندر والدين، وغيرها من التصنيفات التي تبرع البشرية في اختلاقها. لكن المواهب لا تتفتح في الفراغ؛ بل تحتاج إلى بيئة علمية واستثمارات، ومؤسسات، وحرية. تحتاج إلى مختبرات، تمويل، وفضاء للبحث بعيداً من الشعارات وسلطة رجال الدين تحديداً.  وفي حين قدمت الولايات المتحدة وأوروبا، لعمر ياغي وأمثاله من المبدعين العرب، حرية البحث والعمل، كانت الأنظمة العربية على اختلافاتها مشغولة على نحوٍ عام بترداد خطابها الوطني التقليدي: "الوطن، الزعيم، الدين، الشعارات". وعندما يهرب أحدهم من هذا الاختناق ويحقق إنجازاً، تسارع إلى سرقته رمزياً، وتنسبه لنفسها.

 

ويجب القول إن قصة ياغي ليست استثناء، فالعالم المصري أحمد زويل الحائز على "نوبل" في العام 1999، هاجر إلى الولايات المتحدة في السبعينيات، ولم تقدم له مصر أصلاً البنية التحتية أو الدعم العلمي. والعالم الأميركي إلياس جايمس كوري، نال جائزة نوبل للكيمياء في العام 1990، ومازالت وسائل الإعلام اللبنانية تسميه أول لبناني يفوز بالجائزة، بالرغم من أنه ولد في الولايات المتحدة، ولم يعرف لبنان يوماً باستثناء والديه. وفي سوريا، أمثلة كثيرة من ستيف جوبز إلى بيتر ميداور، وعشرات آخرين يقولون صراحة في المقابلات الإعلامية أن لا فضل للدول العربية عليهم، مثل عالمة الأعصاب اللبنانية هدى الزغبي على سبيل المثال.

 

كل تلك الأمثلة تجعل  قصة ياغي اليوم تتجاوز التريند اللحظي، نحو كونها واحدة من أعراض مرض مزمن: غياب بيئة علمية حقيقية، وانعدام الحرية الأكاديمية، وتقديم الولاءات على الكفاءة العلمية. وياغي لا يدين للمنطقة العربية بشيء؛ بل العكس، هذه المنطقة مدينة له ولآلاف أمثاله باعتذار. لأنهم اضطروا إلى الرحيل. لأنهم لم يجدوا مختبراً ولا دعماً ولا أفقاً. وجائزة "نوبل" التي نالها، إن دلّت على شيء، فعلى ما يمكن للعرب أن يحققوه عندما يتحررون من القيود السياسية التي تخنق مجتمعاتهم، ومن القيود الدينية التي تجعل التفكير العلمي أحياناً من المحرمات، خصوصاً في مواضيع مثل البيولوجيا أو الكيمياء والفيزياء.

 

ولا يأتي كل ذلك من فراغ طبعاً. فوفق بيانات "البنك الدولي" بين العامين 2021 و2023، لم يتجاوز متوسط الإنفاق في العالم العربي على البحث والتطوير (R&D) 0.70٪ من الناتج المحلي الإجمالي، في حين يقارب المتوسط العالمي 2.67٪؛ أي أكثر من ثلاثة أضعاف مما تستثمره الدول العربية.

 

وفي السعودية بلغ الإنفاق على البحث والتطوير 0.56٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023، وفي مصر بلغت النسبة 1.03٪، وفي الإمارات كانت النسبة حوالى 1.5٪ في العام 2021. وللمقارنة، تنفق إسرائيل، بوصفها دولة جارة وعدوة لشعوب المنطقة في وقتٍ واحد، نحو 6% من ناتجها المحلي على البحث العلمي، وهي النسبة الأعلى ليس فقط في الشرق الأوسط وحده؛ بل في العالم كله.

 

والأسوأ أن الدول العربية تُعتبر من الأعلى إنفاقاً على الشؤون العسكرية مقارنة بالشؤون العلمية، على مستوى العالم. فوفق إحصاءات "البنك الدولي" و"معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، شكل الإنفاق العسكري في السعودية وحدها حوالي 7.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي (2023)؛ أي ما يزيد عن 12 ضعفاً من الإنفاق على البحث العلمي في العام نفسه. في حين يبلغ متوسط الإنفاق العسكري العالمي حوالي 2.5٪ من الناتج الوطني.

 

ولا يمكن تجاهل مؤشرات أخرى مثل الفساد وهدر التمويل والترهل الحكومي وغياب الشفافية. ويبلغ متوسط مؤشر مدركات الفساد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 39% فقط (2024). ويسجل لبنان نسبة منخفضة جداً تبلغ 22% أمام مصر بنسبة 30%. أما الأردن الذي ينسب إنجاز ياغي له، فتبلغ تلك النسبة 49%. هذا يعني أن جزءاً كبيراً من الأموال العامة المخصّصة نظرياً للبحث العلمي لا يصل أصلاً إلى الجامعات والمختبرات، وفق تقرير مؤشر مدركات الفساد  للعام 2024 الصادر عن "منظمة الشفافية الدولية".

 

بالتالي، هذه الأرقام ليست تفصيلاً جانبياً؛ بل هي قلب المسألة. والأنظمة التي تحتفل اليوم بإسم ياغي هي نفسها التي تستثمر في السلاح أكثر من المعرفة، وتغرق في الفساد بدلاً من تمويل مختبر، وتكتفي بشعار "العقل العربي عبقري" بدلاً من أن توفر له الأدوات ليكون كذلك. لو بقي ياغي في هذه البيئة، فالأرجح أنه ما كان ليصبح عالماً عالمياً؛ بل مجرد رقم آخر في لوائح الإهمال.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث