لماذا تغيّر موقف الاعلام الغربي من مقتلة غزة؟

نور صفي الدين الأربعاء 2025/10/08
صحافي أميركي يتحدث عن مقتل 250 صحافياً في غزة (غيتي)
صحافي أميركي يتحدث عن مقتل 250 صحافياً في غزة (غيتي)
حجم الخط
مشاركة عبر

"لكن لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها"، بهذه العبارة، كان بيرس مورغان يقاطع ضيفه الذي يعبر عن تعاطفه مع ما يجري في غزة، ليحرجه  بعدها بسؤال: "مع ذلك، هل تدين حماس؟". هذا السؤال الذي اعتُبر فخاً منذ اندلاع الحرب، وهدفه إحراج الضيف كي يمتنع عن تصوير نفسه على أنّه يدعم طرفاً "ارهابياً"، ثم بهذه الإدانة المفروضة ينزلق لإظهار دعمه للرواية الاسرائيلية بشكل ضمني. 

ومورغان نفسه، الذي عبّر عن "تضامنه مع الفلسطينين الأبرياء ونقده للحكومة الاسرائيلية" في تغطيات لاحقة، ليس حالة فردية منعزلة وإنما ترجمة لتبدل مواقف الاعلام الغربي تجاه غزة. هذا الإعلام عدّل في مواقفه في الشهور الأخيرة، حيث قرر أن ينسخ مواقف حكوماته، وأن يعيد النظر في لغة التغطية التي استخدمت لصالح البروباغندا الاسرائيلية لتبرير قصف المباني السكنية والمستشفيات وقتل المدنيين. لكن السؤال: لماذا قرر الاعلام أن يدير أذنه الى السردية الفلسطينية لما يجري في غزة اليوم تحديداً؟ ولماذا أخذ كل هذا الوقت ليرى حقيقة ما يحصل؟


سياسات الدول

لا يمكن أن نفهم موقف الاعلامي الغربي من الحرب بمعزل عن قرارات الدول التي يعمل فيها. هذه الحرب بيّنت أن الاعلام الغربي ليس مستقلاً تماماً في تغطياته، وانّما يتماشى مع سياسات هذه الدول باعتباره تعبّر عن توجهات جمهوره، أو غالبيته، أو الأصوات الأعلى منه. والمعضلة التي كرسها هذا الأداء، طرحت اشكاليات عيدة حول مدى ديموقراطية ونزاهة وموضوعية الاعلام الذي تباهي باستقلاليته ونقده المباشر لسياسة دوله بلا خوف وتردد. 

والواقع، أنّه اذا أثبتت التجربة بأن الاعلام الغربي بدا مستعداً في مرات عديدة لخوض معركة الحقيقة في قضايا العدالة، فإن هذه الحرب أثبتت أكثر من أي وقت مضى أنّه ارتضى لنفسه دور "المطيع" في القضايا الخارجية، بل تنازل عن رسالته في البحث عن الحقيقة وتبيانها في أحيان كثيرة ومن ودون الوقوع في غواية التعميم.

 

قوة الإعلام

وعلى الرغم من هذا التنازل، فإن الحرب أكدت قوة الاعلام في تحديد مجرى الأحداث، خصوصاً اذا ما تم تقويض إرادته، وهنا يجدر التمييز بين ارادة الصحافيين الذين تم التضييق عليهم، وإرادة الجسم الإداري في المؤسسة الاعلامية الذي ما انكفأ ينصاع لحكوماته.
زخم التغطية الغربية التي استمدت من المصادر العسكرية الاسرائيلية معلوماتها، كونه منع على كافة الصحافيين الدوليين الدخول الى غزة، جعلت من الإعلام الغربي ماكينة لترسيخ الرواية الاسرائيلية بدلاً من التحقيق فيها. نقل الاعلام الغربي ما أتى على ألسنة العسكريين الاسرائيليين على أنّه تصريحات رسمية غير قابلة للشك، واستكمالاً لمضاعفة استغلال هذه الرواية الاعلامية، فساهمت هذه التغطيات في إعادة تدوير السردية الاسرائيلية بتحويلها الى أدلة حية لاستمرار الحرب على القطاع. 

ففي السابق، تمسك الاعلام بالموقف الرافض لأي هدنه على اعتبار أن ذلك يأتي في مصلحة "حماس"، وذلك على خليفة نشر الصحافة الألمانية ورقة وصفتها "بالسرية عن لسان حماس" بأن الهدنة لمصلحة الحركة، واستخدمت كدليل من قبل نتنياهو لتبرير عدم الموافقة على الهدنة من قبل اسرائيل، ليتبين لاحقاً أن هذه الرواية ليس الا مزاعم مفبركة. وبذلك قبل الإعلام طوعاً أن يكون مجرد ناقل للأحداث بغض النظر عن مصداقيتها. أماّ اليوم، وعلى عكس ذلك، يحمل الإعلام الغربي شعارات "الهدنة"، مؤكداً أن لا منفعة  في استمرار الحرب، مردداً ذلك عن لسان الحكومات الغربية ومتماهياً معها.

 

تحوّل لم يغير الوقائع

وفي محاولة لفهم هذا التحول، لا يمكن الوقوف عند استخدام المصطلحات فحسب، وإن كانت اللغة تحمل في طياتها قناعاتٍ وأفكار. الواقع لم يتغير على الأرض اذ أن المدنيين ما يزالوا يُقتلون ويُجوّعون ويُشرّدون وبوتيرة مضاعفة. 

والحال أن وصف ما يحصل في غزة اليوم على أنّه "مجزرة" وليس "تدابير أمنية"، وأنّ "احتلال للقطاع" ليس "محاولات للقضاء على حماس الارهابية"، وأن "قتل المدنيين الأبرياء" ما عاد موتاً عادياً من دون تسمية القاتل، لا يعني أن مجريات الأحداث قد تغيّرت، لكن طريقة عمل المؤسسات الإعلامية التي تعمّدت التعتيم على قتل آلاف الفلسطينيين، الذين تجاوز عددهم أكثر من 51 مرة عدد القتلى الإسرائيليين، هي التي تغيّرت.

في هذه الحرب، لم يكن الاعلام الغربي شاهداً ولا مؤثراً، لكن دوره المسلوب لا يعني تبرئته حتماً. فالقرارات الحكومية لم تكن مدفوعة، كعادتها، بالضغط من قبل الصحافيين والمؤسسات الاعلامية، وإنما من قبل التحركات الشعبية التي كان يراهن على أنّها ستنتهي تباعاً، وهذا ما لم يحصل. واذا كانت التغطية قد مرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي،  رغم التضييق والحظر، فإن الاعلام الغربي تنازل عن وضع سياق الحالة التاريخية لفلسطين، هذا الانقطاع الذي عزز من تصوير اسرائيل على أنّها "الضحية" ويحق الدفاع عن نفسها كيفما فضّلت بعيداً من المحاسبة القانونية.

 

وهن الإعلام

ظهر الوهن الاعلامي بشكل جليّ بعد محاولات تجويع سكان القطاع، والحديث عن احتلاله وضم الضفة الغربية، واستهداف المدنيين أمام قوافل المساعدات، وإعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن ما يحصل في غزة هو "مجاعة من صنع الانسان"، وقتل الصحافيين عن سابق تخطيط وأمام الكاميرا، وتكميم أفواه صحافيين من الداخل الاسرائيلي على رأسهم صحيفة "هآرتس" التي أوردت في تحقيق لها أن الجيش الاسرائيلي يعطي أوامر بقتل المدنيين الذين ينتظرون المساعدات الغذائية.  وعليه، لم يكن متاحاً للاعلام الغربي، بعد هذه الفضائح، أن يبقى في حالة صمت مطبق، خصوصاً بعدما أعلنت العديد من الدول الاعتراف بدولة فلسطين، وأوقفت بعضها من تصدير أسلحتها الى اسرائيل بفعل الضغط الشعبي، وطالبت مراراً بضرورة محاكمة نتنياهو، كما اعتبرت أن قتل الصحافيين جريمة ضد الانسانية. كان يمكن للإعلام أن يؤدي دوراً استباقياً لمنع تفاقم الأضرار، لكنه ارتأى أن يكون مجرد مرآة لحكوماته بدلاً من التأثير في سياساتها وقراراتها. 


إبادة جماعية

ووفقاً لموقع declassified  البريطاني الاستقصائي، ارتفعت الإشارة إلى الإبادة الجماعية بنسبة 193% في قناة "بي بي سي وورلد"، وبنسبة 181% في "بي بي سي نيوز" منذ أوائل أيار، بينما تضاعفت هذه الإشارة في صفحات صحيفة "الغارديان"كما زادت القصص التي تشير إلى "غزةو "جرائم حرب"، بنسبة 88%، بما في ذلك زيادات كبيرة على "بي بي سي 1" (ارتفعت بنسبة 128%)، و"بي بي سي نيوز" (139%)، ونشرت صفحة "بي بي سي" الالكترونية في حزيران تقريراً مطولاً للمحرر الدولي جيريمي بوين، الذي أقر، وللمرة الأولى، بأن  "إسرائيل متهمة بأخطر جرائم الحرب".

وفيما يظهر أن مواقف الحكومات اليوم تجلب التفاؤل، إلا أن ذلك ليس أمراً ثابتاً. في السياسة تتبدل مواقف الحكومات بحسب ما تقتضي المصالح، ذلك أن العديد من الدولة الغربية لا تزال حائرة في موقفها السياسي مما يحصل في غزة لاعتبارات سياسية واقتصادية رغم حملة الانتقادات التي تشنها اليوم. الآمال اليوم في أن يستكمل الاعلام دوره في مراقبة أداء هذه الدول ليست كبيرة، على أساس التعامل معه كمعطى سلبي بلا دور أو نفوذ، كذلك لا يمكن للشارع الغربي وحده بالمطالبة بالعدالة ما دام الاعلام لا يتمتع بهذه القدرة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث