حامل لقب "مُحاوِر الكبار"، الإعلامي ريكاردو كرم، لم يكن يبحث عن كبير آخر؛ إذ اختار أن يعيد صياغة الحوار لا من مركز المتحاور معه، إنما بناءً على إنسانيته، ومعاناته، وموقفه. نزل الى المستشفى ليزور أماني بزي، الأم اللبنانية التي فقدت زوجها واثنتين من بناتها، وتنتظر إشارات من الأطباء حول تحسن ابنتها الثالثة، ذلك في استهداف إسرائيلي لسيارتهم في منطقة بنت جبيل جنوبي لبنان قبل أسبوعين.
وهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها كرم صفحته الشخصية لدعم قضية ما، بدءًا من غزة إلى بائع الزهور يحيى، وصولًا إلى مبادرته في دعم الممثلين الذين يعيشون ظروفاً صعبة. واليوم، في زيارته للأم الجريحة الثكلى أماني بزي في المستشفى، يبحث عن قواسم مشتركة مع الآخرين، تغّلب الإنسانية دائمًا، وتدفع المتابع للاستماع الى قصص هؤلاء الناس الذين يشكلون هوية الوطن من دون أن تطالهم ولو ومضة ضوء.
تجربة سنوات
تمتد هذه الزيارة إلى تجربته. على مدى سنوات، ظل ريكاردو كرم وفياً لأسلوبه الإعلامي في طرح القضايا. هادئ، رصين وبعيد من الصدامات التي اعتادها المشاهدون، الصدامات التي منحت لبعض الإعلاميين حضوراً ومساحة قامت وتمددت وانتشرت على قاعدة الاستعراض.
يعرف كرم جيداً كيف ينتقي كلماته، بحرفية تكسب الكلمة نبضاً، فتغدو مقابلاته كأنها على إيقاع موسيقي خفيفة. وليس في ذلك غرابة، فهو الذي دفعه شغفه للموسيقى الى الإعلام في سن مبكرة.
تغريدة خارج السرب
لكن المفارقة أنّه، وفي حين يتخبط اللبنانيون حول شكليات وخلافات سياسية، أتى منشوره، الأحد، ليذكر بأن هناك آلاماً لن تشفى بمرور الزمن، وأن على أبناء الوطن، والدولة في مقدمتهم، أن يعوا أنّ كل التجاذبات والاصطفافات والتراشقات السياسية جمعاء، هي مجرد انشغالات سطحية عن عمق الجرح اللبناني، وأفعال صبيانية ساقطة عند أوجاع هذه الأم التي فقدت زوجها واثنتين من بناتها قتلًا على يد إسرائيل.
وعلى الرغم من التجاذبات الحاصلة في وسائل التواصل الاجتماعي، والكمّ الهائل من الأخبار السلبية، حوّل ريكاردو منصته إلى منصة رسائل إيجابية بلغة قريبة من القلب، دافئة ومثقلة بالمعرفة. يملك رأيه الحر، ليس منحازاً لأحد، لكنه على مسافة واحدة من الجميع، يمارس دوره الإعلامي المتزن الذي لا يقوم على الانتقاد بهدف الاستقواء، إنما على الانتقاد بغية إيجاد رؤية مشتركة تلبي حاجات الجميع.
فرد يؤدي دور مؤسسات إعلامية
والحال أن زيارة كرم أتت على نقيض ممارسة الإعلام اللبناني الذي عادةً ما يهب لتغطية قضية ما، فور حصولها، لكنه سرعان ما يخفت اهتمامه مع انقضاء الوقت. جسّد كرم بنفسه مؤسسات إعلامية كاملة تخلفت عن متابعة هذه المجزرة التي ما عادت مادة دسمة تفتح شهية الرأي العام، وحمل عتب أماني بزي بلغة حاكها على طريقة "العتب على الجميع والحزن على الوطن" إلى الطوائف اللبنانية كافة، لترى أن وهن هذه الأم، هو مرآة للواقع اللبناني، الوطن المُتعب الذي يفقد أبناءه واحداً تلو آخر.
كسر منشور كرم كل الحواجز المرفوعة بين الطوائف، هذه الحواجز التي بدت مجرد حدود مفترضة لا حقيقة لها. فالوطن للجميع، والدين للجميع، والموت لا يميز بين طائفة وأخرى، ومنطقة وأخرى، وعائلة وأخرى. ريكاردو الأب الذي عانى ما عاناه بعد تشخيص ابنه نديم بمرض السرطان في وقت سابق.