حجم الخط
مشاركة عبر
لماذا يفتقر السوريون إلى روح المبادرة؟ هو السؤال الذي يدور غالباً في بال السائر في شوارع دمشق وغيرها من المدن السورية... إلاّ ما ندر. وما يلفت النظر هنا، تعليقات سائح ألماني زار الرقّة منذ أيام برفقة زوجته.
إذ نشر الزوجان مشاهداتهما في "انستغرام"، فوصفا الرقة بـ"مكبّ نفايات"، مصدومَين بما صادفاه. كتب الزوج: "لقد زرت كلّ مدن العالم العربي، ومدناً كثيرة حول العالم ولم أشاهد مدينة بهذا الاتساخ، أكوام النفايات في كل مكان، الأطفال يلعبون قرب المزابل أو يبحثون داخلها، في هذه المدينة التي يحكمها الإهمال وتُحكم من قبل الإدارة الذايية ثمة غضب شديد لدى السكان". يشير السائح إلى الوضع السياسي ويلمح له، لكن هل نعتبر الوضع السياسي هو المسؤول الأول؟ لا يمكن نكران ذلك، فالتهميش والتغييب والإهمال والفقر يحيل الإنسان إلى حجر.
منذ فترة، وأثناء عودتي من دمشق إلى إحدى ضواحيها حيث أقيم، كان سائق السرفيس يقود برعونة، وفي نفق الأمويين بدأ "المُكاسرة" مع مركبة أخرى، وبدا هذا التحدي الغاضب طيشاً غير محسوب العواقب. الشخص الوحيد الذي ظهر عليه انفعال الخوف كان طفلاً في السابعة أو الثامنة، كانت وجوه الركاب من نساء ورجال في تعبير أقرب للبلادة أو اللامبالاة، بلا أي رد فعل. سمعت صوت عجوز يقول: نموت ونرتاح. بينما أجابته امرأة تجلس بجواره: اللي كاتبه الله بيصير. لم يفكر أحد سواي ربما في لفت نظر السائق إلى تصرفه، وحتى حين فعلت لم يرفع أحد منهم صوته.
وهذه لم تكن المرة الوحيدة، بل تكررت في مَشاهد كثيرة، أحدها القمامة التي تفيض عن الحاويات وتُرمى في زوايا وأماكن متنوعة يتعثر بها المار ويتابعون سَيرهم، في حال من الخمول يحتاج فهمه لأعتى علماء النفس والاجتماع. فهل هو العجز عن استيعاب القانون؟ أم السلبية والأنانية التي سادت قبلاً في التعامل مع واقعهم في ظل نظام سياسي اغتصب المكان والزمان؟ هل امتد هذا العجز حتى طاول أرواحهم؟ وإن انتصرت ثورتهم، فهل نهضت حساسيتهم للعام أسوة بالخاص؟ هل فكروا في بداهة أن مصيرنا مرتبط بمصير الآخرين، أم مازالوا يقولون اللهم نفسي؟ ألا تتطلب المواطنة الحقيقية ما يطلق عليه إيهاب حسن الثقة والغيرية، وألا "تتطلب التجرد عن الهوى، والتعاطف، والاهتمام بالآخرين وبالعالم المخلوق، وبشيء ليس فينا"؟
نصف قرن من السلبية والأنانية تغلغل في النظام التعليمي القائم على المنافسة بشكلها الأعمى المغذّي للأنا المُطلَقة، إذ يصبح التلميذ مستعداً -حيث الغاية تبرر الوسيلة- للدَّوس على من بجانبه للتفوق، من دون الأخذ في الاعتبار أن التفوق هو انتصار على الذات لا على الآخر. امتد هذا السلوك للفن والأدب وللمؤسسات الحكومية والمدنية التي تحولت إلى تصيّد أخطاء بدلاً من التشاركية. وشاعت فيها فلسفة "طق البراغي" والمحسوبية ووضع العراقيل لنجاح الآخر. وهذا يطرح السؤال عن الثورة! فالثورة ليست ثورة على الآخر أو مجرد انتصار على عدو، بل هي الانتصار على نمط ثقافي وحياتي فاسد، خروج على السائد وانتباه للتشوهات التي لحقت بالذات والوعي السوري. فإن لم يمتلك السوريون شجاعة الثورة على أنفسهم، فكأنهم لم يحققوا شيئًا. وإذا لم يكن لها صدى في الأذهان، فلا فائدة منها.
الثورة تعني شجاعة التفكير في نظُم التربية التي تقوم عليها الأسرة التقليدية، سواء في التعليم التلقيني أو حتى في الزواج العابر للطوائف. فهل يتمكن السوري الآن من الزواج بمن يحب بلا معوقات دينية أو طائفية؟ شجاعة أن نحدق في التشوهات، وأولها وليس آخرها اللامبالاة التي تجعل منظر طفل يكسر شجرة ظاهرة لا تستحق الالتفات، أو رؤية شخص يرمي القمامة في شارع أو حديقة أمراً عادياً، أو مصادفة شخص ينتهك القانون شأناً أقل من عادي! فما هو غير العادي في نظر السوريين؟ لباس امرأة سافرة؟ أم خروجها بالشورت؟!
يُطلب من دولة ما بعد الأسد إعادة وعي الإنسان وحساسيته المدنية، كما يُطلب الشي نفسه من الناس أنفسهم... بدلاً من الانجرار إلى التفكير في منع البكيني أو السماح به. فهذا والله من النوافل وتوافه الأمور، أن يشغلنا جسد المرأة ولا تلفت أنظارنا تلال القمامة أو انتهاكات القانون!
ثمة كاتبة فرنسية تحدثت عن ذكرياتها من الحرب العالمية الثانية، فحكت أنه وبينما كانت القوات المعادية تتقدم وتحاصر المدينة، حافظت والدتها على صرامتها في ما يخص قواعد النظافة وأناقة الأكل وسلوكيات التهذيب وتلاوة صلاة الشكر كل صباح ومساء. كانت المدينة مدمّرة، والقوات المعادية على أبوابها، والأم تقوم بالطقوس ذاتها وتفرضها على أطفالها. بعد زمن، فسّرت الأم ذلك برغبتها في إنقاذ الإنسان داخل أبنائها. فنحن لا نموت حين نُقتل، بل حين تموت أرواحنا.
بأرواح مسلوبة وعيون لا مبالية، ستجد سوريين في حافلة أو شارع أو حديقة، أمام دكان أو مؤسسة حكومية. يبدون مستسلمين ولا مكترثين، وعند اللزوم يحدثونك عن حب الوطن!
لا تقاس الوطنية بالأهازيج، بل بنظافة شوارعنا ورقيّ تعاملاتنا. الوطنية شعار عائم لا معنى له. فمَن يعرف الوطنية السورية؟ وهل قابلها أحد عند منعطف؟! سبق أن انتُهك المكان من قبل سلطة الأسد وشُوِّه ولُوِّث، فبنى السوريون بينهم وبينه حجابًا، وأصبحت جدران المدن حمّامات عمومية، والحدائق حاويات قمامة. لا يكترثون لدمار شجرة أو لبشاعة في حياتهم. وغياب الوعي والقانون، بنى بينهم وبين انتظام الحياة جبالاً من سوء الفهم والخَدَر، ليعيش السوريون غرباء في بلادهم غربة العجز واللامبالاة مرةً، والأنانية والسلبية مرات كثيرة.
إذ نشر الزوجان مشاهداتهما في "انستغرام"، فوصفا الرقة بـ"مكبّ نفايات"، مصدومَين بما صادفاه. كتب الزوج: "لقد زرت كلّ مدن العالم العربي، ومدناً كثيرة حول العالم ولم أشاهد مدينة بهذا الاتساخ، أكوام النفايات في كل مكان، الأطفال يلعبون قرب المزابل أو يبحثون داخلها، في هذه المدينة التي يحكمها الإهمال وتُحكم من قبل الإدارة الذايية ثمة غضب شديد لدى السكان". يشير السائح إلى الوضع السياسي ويلمح له، لكن هل نعتبر الوضع السياسي هو المسؤول الأول؟ لا يمكن نكران ذلك، فالتهميش والتغييب والإهمال والفقر يحيل الإنسان إلى حجر.
منذ فترة، وأثناء عودتي من دمشق إلى إحدى ضواحيها حيث أقيم، كان سائق السرفيس يقود برعونة، وفي نفق الأمويين بدأ "المُكاسرة" مع مركبة أخرى، وبدا هذا التحدي الغاضب طيشاً غير محسوب العواقب. الشخص الوحيد الذي ظهر عليه انفعال الخوف كان طفلاً في السابعة أو الثامنة، كانت وجوه الركاب من نساء ورجال في تعبير أقرب للبلادة أو اللامبالاة، بلا أي رد فعل. سمعت صوت عجوز يقول: نموت ونرتاح. بينما أجابته امرأة تجلس بجواره: اللي كاتبه الله بيصير. لم يفكر أحد سواي ربما في لفت نظر السائق إلى تصرفه، وحتى حين فعلت لم يرفع أحد منهم صوته.
وهذه لم تكن المرة الوحيدة، بل تكررت في مَشاهد كثيرة، أحدها القمامة التي تفيض عن الحاويات وتُرمى في زوايا وأماكن متنوعة يتعثر بها المار ويتابعون سَيرهم، في حال من الخمول يحتاج فهمه لأعتى علماء النفس والاجتماع. فهل هو العجز عن استيعاب القانون؟ أم السلبية والأنانية التي سادت قبلاً في التعامل مع واقعهم في ظل نظام سياسي اغتصب المكان والزمان؟ هل امتد هذا العجز حتى طاول أرواحهم؟ وإن انتصرت ثورتهم، فهل نهضت حساسيتهم للعام أسوة بالخاص؟ هل فكروا في بداهة أن مصيرنا مرتبط بمصير الآخرين، أم مازالوا يقولون اللهم نفسي؟ ألا تتطلب المواطنة الحقيقية ما يطلق عليه إيهاب حسن الثقة والغيرية، وألا "تتطلب التجرد عن الهوى، والتعاطف، والاهتمام بالآخرين وبالعالم المخلوق، وبشيء ليس فينا"؟
نصف قرن من السلبية والأنانية تغلغل في النظام التعليمي القائم على المنافسة بشكلها الأعمى المغذّي للأنا المُطلَقة، إذ يصبح التلميذ مستعداً -حيث الغاية تبرر الوسيلة- للدَّوس على من بجانبه للتفوق، من دون الأخذ في الاعتبار أن التفوق هو انتصار على الذات لا على الآخر. امتد هذا السلوك للفن والأدب وللمؤسسات الحكومية والمدنية التي تحولت إلى تصيّد أخطاء بدلاً من التشاركية. وشاعت فيها فلسفة "طق البراغي" والمحسوبية ووضع العراقيل لنجاح الآخر. وهذا يطرح السؤال عن الثورة! فالثورة ليست ثورة على الآخر أو مجرد انتصار على عدو، بل هي الانتصار على نمط ثقافي وحياتي فاسد، خروج على السائد وانتباه للتشوهات التي لحقت بالذات والوعي السوري. فإن لم يمتلك السوريون شجاعة الثورة على أنفسهم، فكأنهم لم يحققوا شيئًا. وإذا لم يكن لها صدى في الأذهان، فلا فائدة منها.
الثورة تعني شجاعة التفكير في نظُم التربية التي تقوم عليها الأسرة التقليدية، سواء في التعليم التلقيني أو حتى في الزواج العابر للطوائف. فهل يتمكن السوري الآن من الزواج بمن يحب بلا معوقات دينية أو طائفية؟ شجاعة أن نحدق في التشوهات، وأولها وليس آخرها اللامبالاة التي تجعل منظر طفل يكسر شجرة ظاهرة لا تستحق الالتفات، أو رؤية شخص يرمي القمامة في شارع أو حديقة أمراً عادياً، أو مصادفة شخص ينتهك القانون شأناً أقل من عادي! فما هو غير العادي في نظر السوريين؟ لباس امرأة سافرة؟ أم خروجها بالشورت؟!
يُطلب من دولة ما بعد الأسد إعادة وعي الإنسان وحساسيته المدنية، كما يُطلب الشي نفسه من الناس أنفسهم... بدلاً من الانجرار إلى التفكير في منع البكيني أو السماح به. فهذا والله من النوافل وتوافه الأمور، أن يشغلنا جسد المرأة ولا تلفت أنظارنا تلال القمامة أو انتهاكات القانون!
ثمة كاتبة فرنسية تحدثت عن ذكرياتها من الحرب العالمية الثانية، فحكت أنه وبينما كانت القوات المعادية تتقدم وتحاصر المدينة، حافظت والدتها على صرامتها في ما يخص قواعد النظافة وأناقة الأكل وسلوكيات التهذيب وتلاوة صلاة الشكر كل صباح ومساء. كانت المدينة مدمّرة، والقوات المعادية على أبوابها، والأم تقوم بالطقوس ذاتها وتفرضها على أطفالها. بعد زمن، فسّرت الأم ذلك برغبتها في إنقاذ الإنسان داخل أبنائها. فنحن لا نموت حين نُقتل، بل حين تموت أرواحنا.
بأرواح مسلوبة وعيون لا مبالية، ستجد سوريين في حافلة أو شارع أو حديقة، أمام دكان أو مؤسسة حكومية. يبدون مستسلمين ولا مكترثين، وعند اللزوم يحدثونك عن حب الوطن!
لا تقاس الوطنية بالأهازيج، بل بنظافة شوارعنا ورقيّ تعاملاتنا. الوطنية شعار عائم لا معنى له. فمَن يعرف الوطنية السورية؟ وهل قابلها أحد عند منعطف؟! سبق أن انتُهك المكان من قبل سلطة الأسد وشُوِّه ولُوِّث، فبنى السوريون بينهم وبينه حجابًا، وأصبحت جدران المدن حمّامات عمومية، والحدائق حاويات قمامة. لا يكترثون لدمار شجرة أو لبشاعة في حياتهم. وغياب الوعي والقانون، بنى بينهم وبين انتظام الحياة جبالاً من سوء الفهم والخَدَر، ليعيش السوريون غرباء في بلادهم غربة العجز واللامبالاة مرةً، والأنانية والسلبية مرات كثيرة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها