newsأسرار المدن

نراقب الشّهب...صواريخَ ونجوماً

إيناس عزيالخميس 2025/06/26
the-starry-night.jpg
"ليلة مليئة بالنجوم" - فنسنت فان غوخ
حجم الخط
مشاركة عبر
بعد منتصف الليل. أتقلّب على وسادتي، ورغم أن جسدي منهك، لا أقدر على النوم.
تمنحني النجوم الصغيرة المضيئة، المبّتة في سقف الغرفة، بعضاً من الأمان في هذا الظلام الدامس. اكلّ يغفو، أنسحب بهدوء إلى الشرفة.

نسائم الليل... ودويّ الطائرات الذي لم يهدأ منذ أيام. عتمةٌ دامسة تحاصر المكان.
أُحدّق في السماء، تتلألأ النجوم بوميضٍ آسِر، غير مكترثةٍ بما يحدث:
الصواريخ التي تذرع السماء جيئةً وذهابًا، رشقات الرصاص، قذائف الهاون، التفجيرات.
لا تبالي بما يجري على الأرض، بكلّ ذلك الموت والدمار والجوع. لا تبالي بوادي الدموع هذا الذي لا ينضب.

تنضمّ إليّ ابنتي. قصّت عليّ كابوسًا أيقظها فَزِعة. تحتضنني بذراعين مرتجفتين، ابنتي التي غدت أطول منّي، وأقوى، وتثابر على محاولة التحرّر من ظلي. نُراقب معًا تلك العيون السماوية، نعدّها، نستجدي محرك البحث والذكاء الاصطناعي لنفهمها.
ألمحُ صاروخين ينفجران بعيدًا، يسقطان كالشُّهُب. أتركها غير منتبهة.

فجأةً، صرت أكثر خفّة. فجأةً تحرّرت من خوف جعلني أحتضن أولادي قبل أشهر فقط، خوفٍ من قذائف كانت موجّهة إلى مدينتنا، خوفٍ جعلني أحتضنهم وهم صغار قبل سنوات طويلة مرعوبين من صواريخ تقصف المدينة المجاورة فتهتز معها نوافذنا ومشاعرنا. تحرّرت في لحظة من خوف لازمني منذ ولادتهم تباعًا. لا أملك ما أفعله...

يقول "غوغل" إن البابليين كانوا أوّل من رصد النجوم بدقّة، بعد السومريين، أوّل من قسم السماء، تخيّل دائرة البروج، ابتكر التقاويم. اعتقدوا أن للنجوم دلالاتٍ روحيّة ورسائل من الآلهة. أطلقوا على كوكبة "الدبّ الأكبر" اسم "المحراث السماوي" رمزًا للخصوبة والبدايات، محراثٌ يشقّ السماء لتزهر... لتتحرّر!

الإغريق تخيّلوه دُبًّا، والمصريون القدماء رأوه تمساحًا أو فرس نهر أو مركبة إلهيّة. أمّا الهندوس فرأوا فيه سبعة حكماء خالدين. يسأل الربُّ أيّوبَ في العهد القديم موجّهًا نظره إلى السماء: "هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا، أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟ أَتُخْرِجُ الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَهْدِي النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟". النعش هو "الدبّ الأكبر"، وبنوهُ، النجوم المرافقة، تعكس إرادة الله في السماء لدى العبرانيين.

كان تأمّل السماء ونسج الأساطير هو محاولة الإنسان الأولى لتفسير الطبيعة وظواهرها. ثمّ جاء الفلاسفة الأوائل، حاولوا فهم الطبيعة، لا من طريق الآلهة، بل بالعقل. وهكذا بدأ الإنسان يتحرّر من الأسطورة... حتى ارتقى إلى الفضاء.

أحكي لابنتي عن يوري غاغارين، أوّل من سافر إلى الفضاء، ورأى الأرض، ودار حولها. ذلك الاسم الذي حفظته من كتب أبي، من مكتبة مليئة بكتب العلوم والفيزياء، تطوّر الإنسان، والبيولوجيا. أبي الذي آمن دومًا أن العلم طريق الحريّة. أوّل كتبي كان هدية من أمي: كتابٌ عن مدام كوري، قبل أن ينتقل إلى ابنتي.

"تجرّأ على المعرفة"، قالها كانط، أجمل ما قيل. المعرفة العقلانية شرطٌ للتحرّر: "الإنسان، من حيث هو ظاهر، خاضعٌ للطبيعة. ومن حيث هو عقل، فهو حرّ". عبقرية كانط.
التنوير، الخروج من الوصاية، من قصور الذات، من طغيان الدولة، والعائلة، والمجتمع، من التبعية والخوف. القصور الذاتي، قانون نيوتن الأول، وُلد من تأمّل وتفكير. حرية التعبير، النقاش الحرّ، وحدهما ما يدفعنا إلى تجاوز كسلنا، والتحرّر...

تُلاطف نسمات الليل وجوهنا، تنبَح الكلاب، فتقطع لازمة صراصير الليل وسكونًا مشبعًا بالأسئلة. نُحدّق في الفضاء بقدر ما تحيط به أبصارنا، شموسٌ بعضها انطفأ منذ أزمنة سحيقة، وشموسٌ لم يصلنا ضوؤها بعد. كانت بداية التأمّل في السماء، عبر الأساطير، بدايةَ تحرّر العقل من الخوف. هناك، في الأعلى، حيث تذوب حدود الزمان والمكان. لكلّ نجمٍ حكايةٌ قديمة، وما نراه الآن هو الماضي الأبدي.

تكمل ابنتي قراءة الأسطورة الإغريقية، ونحن نراقب الدبّ الأكبر الذي يبدو كملعقة ضخمة في الفضاء:
"أركاس" يصوّب رمحه نحو أمّه التي حوّلتها "هيرا" إلى دُبّة، فيرفعهما "زيوس" إلى السماء: كاليستو الأم، تصير الدبّ الأكبر، وأركاس الابن، يصبح الدبّ الأصغر. تتوسّل "هيرا" آلهة المحيطات ألا تسمح لهما بالغوص في الأفق. بقيا هناك، يدوران أبدًا. لا يكترثان بنا – نحن، الذين تحرّرنا منها في زمن سحيق، نحن غبار تلك النجوم.


التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث