newsأسرار المدن

عن أن بشار مخطوف...وأسماء مرشّحة لعرش بريطانيا

فدوى العبودالثلاثاء 2025/05/20
Abdalla-OmariLR-LR-344x500.jpg
"ماذا لو كان لاجئاً" من "سلسلة الهشاشة" (2016) للفنان السوري عبد الله العمري
حجم الخط
مشاركة عبر
يلوذ الإنسان في أوقات الضعف، بالأوهام. واللحظات الأصعب هي تلك نعجز فيها عن الفهم، ونفقد ما نعتبره من المسلَّمات. ويمكن أن نضع للشهور الأخيرة في حياة بعض السوريين، عناوين عاطفيّة نقسمها إلى ثلاث محطات: صدمة وذهول، يعقبها خوف وهلع، وأخيراً نكرانٌ واختلاق.

فمَن رأى في بشار الأسد منقذاً، لم يستطع تصديق رحيله، أو بمعنى أدق فراره. كانت محاولة تصديق التغيير صعبة، وسرعان ما تحولت إلى انتكاسة ضاعفت من أثرها ممارسات الإدارة الجديدة من إقصاء وفصل للموظفين بشكل متسرّع، وصولاً إلى مَقتلة الساحل في 7 آذار الماضي والتي ساهمت في تدهور الأحوال النفسية وعززت انعدام الشعور بالأمان.

الحكاية الأولى حدثت في اليوم الذي تلا التحرير. ذهبت لشراء القهوة من دكان جارتي العجوز، فوجدتها تجلس ويداها اليابستان في حجرها، تنظر في الفراغ. لم تكن لديها أسئلة كالعادة، بل رغبة في إخباري بشيء ما. ساعدها سؤالي عن حالها، فقالت: "بشار لم يهرب، لقد اختُطف!...نعم، خدّروه بعدما أوهموه بالذهاب إلى مؤتمر عربي وفي الطائرة استيقظ ليجد نفسه مقيّداً". كانت تروي بيقين وثقة. تناولتُ ظرف القهوة من يدها فتابعت: "السيد الرئيس بشار بريء".

كنت لأظن ذلك حدثًا عابراً، أو عرضاً من أعراض التقدم في السن، حتى قابلت أثناء ممارستي لرياضة المشي تلميذاً دَرَّستُه في الثانوية، والآن ينجز عامه الجامعي الأخير في العلوم السياسية. لم يكن الشاب ذاته الذي قابلته قبل سنة. اختفت البهجة التي ميزته قبل شهور، وهو يروي لي طموحه في أن يصبح ملحقاً دبلوماسيّاً كما وعده والده المتنفذ في الجيش، فذلك حق من حقوق مَن يدافع عن الوطن ويبذل من أجله دمه. في اللقاء الأخير كان قد تبدل كلياً، وكأنه هَرِم. ذقنه مرسلة وملامحه مرهقة، وكتفاه متهدّلان. راح يردد: "ضاع المستقبل يا آنسة". ثم أردف أنه، وبحكم حنكته الدبلوماسية، يرى أن لدى الأسد فرصة في تشكيل حكومة منفى تدير البلد من بُعد، وفقاً للقوانين الدولية. وتذكرتُ ليلة إشاعة عودة ماهر الأسد، والتي أعقبت حوادث قتل وعنف في إحدى قرى الساحل. نظرت إليه، فشعرتُ به عالقاً في عالم مختلف، عاجزاً عن التقدم خطوة باتجاه الحاضر.

لكن الحادثة الأخيرة، التي حفزتني لكتابة هذا النص، تتمحور حول السيدة "س"، التي قابلتها أثناء رياضة المشي منذ أيام. ترافقنا بضعة أمتار، عرفت خلالها أنها أرملة شهيد في صفوف النظام السابق، فُصلت من عملها في شركة النفط، وتوقفت المنحة المالية المخصصة لذوي الشهداء عن أبنائها الأربعة، فاضطرت إلى تأجير غرفة في بيتها لتأمين ثمن الخبز. وحين ذكرتُ اسم بشار عرضاً وبغضب، طلبت مني أن أتريث في أحكامي، وان أعي أن بشار انتحر في اليوم العاشر للتحرير بشرب ماء الجافيل". وتابعت حديثها عن أسماء الأسد، عميلة بريطانية، أُرسلت منذ العام 2010 لأداء مهمّة، كما أنها ربيبة الملكة البريطانية اليزابيث، وأن أسماء، بعد طلب الطلاق وانتهاء مهمتها وشفائها، مرشحة لتكون ملكة بريطانيا!

لا شك في إن المخيلة تعمل بأقصى طاقتها في لحظات الخوف، تهديد الوجود، لكن الذهول الذي لمحته في وجوه مَن قابلتهم لم أجد له تفسيراً سوى أنهم في المقام الأول فقراء بلا سَنَد، وأنهم وجدوا أنفسهم أمام تغيير يتعذر عليهم فهمه. كانوا عاجزين عن تصديق فكرة زوال عالمهم "الآمن" الذي يحميه الأسد، وعاجزين عن استيعاب التغيير الذي حدث وقبول حقيقة أن بشار تخلى عنهم. فصورته -في حال صدقوا ذلك- ستتعرض في أعماقهم إلى رضّ كبير يطاول ضمائرهم وأرواحهم. باختصار، كانوا في حالة إنكار مخيف.

"بشار لم يخُن، لم يهرب كلصّ، ذلك مستحيل". هذه الحقيقة كانت لتخدش عالمهم الذي يعرفونه. لم يكن دفاعهم عنه إلاّ دفاعاً عن أنفسهم، لقد عجزوا عن فهم عالمهم، فخلقوا نظريات كثيرة لتفسيره وهضمه...أبرزها نظرية المؤامرة.

لقد آمنوا بشيء خارج ذواتهم، وكانت أجسادهم دروعاً بشرية، خزان الدماء التي تحمي الأسد، فاتورة أو شيكاً على بياض لرجل لم يكترث لهم ساعة الجدّ. جعلوا حيواتهم ومصائرهم في خدمته. ولما تُركوا مفرغين من الحيلة والخبرة والتدريب، باتوا ضحايا الوعود التي صدقوا صدورها عمّن تاجر بأعمارهم وأحلامهم... إلى أن وجدوا أنفسهم وظَهرُهم عارٍ.

ما يوحد بين هؤلاء، أمرأن: ملامح ما بعد الصدمة، والإيمان بقصة محبوكة جيداً، وقد رُتّبت فيها الأسباب والنتائج لتؤدي غرضاً واحداً: مساعدتهم على تفكيك شيفرة العالم الجديد الغريب عليهم. فالحرية كانت أكثر من طاقتهم على الاحتمال، بل كانوا أشبه بذلك الطفل الذي وُلد في المعتقل وحين تم تحريره من صيدنايا أخبر والدته أنه يرغب في العودة إلى غرفته متذرعاً بأن الهواء كثير...

ودّعتُ السيدة "س" عند أحد المنعطفات، فقالت بكرَم: زوريني... ثم رددت بصوت يشوبه المرار: الحقيقة ستظهر عاجلاً أوم آجلاً أليس كذلك؟
لم أُجِب. تابعتُ السير متذكرة عبارة قرأتها ذات مرة لمصطفى حجازي: الإنسان المقهور يراهن على خلاصه على يد الزعيم المنقذ، من دون أن يعطي لنفسه دوراً في السعي إلى هذا الخلاص، سوى دور التابع المعجب المؤيّد من دون تحفظ، ومُنتظِر المعجزة.

لما عجز هؤلاء عن استيعاب التغيير، كانت أوهامهم طريقاً آمنة إلى ما يألفونه منذ عقود، وهي للأسف مليئة بالسراب. والسراب يزداد رقرقة والتماعاً، كلما ازداد فقر المتحدثين. الفقر أيضاً يقتل المنطق والقدرة على التأقلم، لأن احتياجات أصحابه من صُلب مستلزمات البقاء، مجرد البقاء. الفكرة الأكثر رسوخاً في قناعاتهم أن بشار بريء. يخشون خسارة الصورة، لأنها ربما تعني خسارة أعمار كاملة هيمن عليها الكذب. هؤلاء يقابلهم المرء، أثناء نزهة أو ممارسة للمشي، في الباص والحديقة وأمام الفرن. لهم عيون مترقبة، غار فيها الأمل حتى تبدد، عيون متلّهفة تكاد تقول: تعال نخبرك حكاية العالم كما نفهمه، العالم كما اعتدناه.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث